بأقلام القراء

يحيي ياسين يكتب: لأقعدن على الطريق وأشتكى‎

الصباح العربي

جلست والخوف بعينيها، تحملق حولها كأنها خائفة قدوم سائق رقبتها إلى النار، كاد الرعب يفتك بجسدها مرتعشة وأركانها الصغيرة متسخة، كانت يداها الرقيقتان كلوحة جمعت مختلف المعالم والألوان، فبها بقايا حلوى ترتسم على عروقها مصطحبةً بأتربة سوداء، وقد تبللت يداها بالدموع، فرسمت عيناي يديها كلوحة بها معالم الفرح وهى الحلوى والحزن وهى الدموع.

كانت تمصمص في أطراف أصابعها تنظر إلى تارة وتلتفت عنى سارحةً في أمورها، لها شعر أشقر يتوج رأسها متسخ بأتربة الشوارع، تجمعه برباط من أكياس القمامة، يفيح منه تكمم العفن، ولا تلبث أن تهرش برأسها كأنها تؤلمها من اتساخها، وعينيها الضيقتين الجميلتين السارحتين في ملكوت الله حزني على حالها، عينان بنيتان يشعان النور منهما فى انعكاس ضوء الشمس الذهبي واختلاطه بعينيها المغلغلتين بالدموع فكأن عينيها صنبور دموع سلط ضوء الشمس عليه لتشع جمالا وضياءً.

ثم اتكأت الصغيرة على جنبها بعد أن فرشت لها فراشًا من حاوية متقطعة، وقدميها الحافيتين المتقرحتين لا يجدا من يواريهما أثر صخور الشوارع القاسية، في مشهد يدمى القلب لأجله، بمنطقة خالية لا مأوى ولا صراخ بها كأنها سئمت الزحام فتركت خلفها الخلاف لتجلس وحيدة تشكو همها وما ألم بها لربها.

وبينما هي كذلك أطلقت بسمة دامعة أخمدت من حولها ضياء الوجود لجمالها، وبرزت أسنانها الصغيرة المتسخة ذات الفلنات الواسعة، وشفاهها الرقيقة التي مالت للسواد من جزها عليها لجوعها، وتنظر للسماء باسمة تناجيها فرحة بهيئتها وعلوها، وتضع يديها على وجهها كيلا يراها أحد.

كنت أرقبها من قريب فأراها متكئة غير نائمة تفتح عينيها تتلفت يمينا ويسارا ثم تعود لجلستها كأنها تخشى أن يعبث بها كلاب الشوارع المفترسة، أو أن يعرض لها رجل يؤذيها، وتقلب النظر في كفيها حتى غلب عليها النعاس تحت شعاع الشمس الحارق في صحراء جرداء لا تجد شجرة تستظل تحتها، فوضعت الجميلة كفيها تحت رأسها كأنهما وسادة، وكاتفت أرجلها لتستعد للنوم.

خطوت نحوها قليلًا وأنا أهمس بقدمي كي لا أوقظها، ففزعت من نومها وجلست القرفصاء، فدققت النظر بجسدها فصعقت من هول المنظر، وضاق نفسي، واضطرب جسدي منتفضًا من هوله، فإذا بي لا أجد قدمها الأيمن، رأيت ساقًا صغيرة تربطها بقطعة من القماش البالي المتعفن، يسيل منها صديدٌ كأنها أصيبت من قريب الزمن، فجلست جوارها أحدثها فقالت!

"قدمى! لقد قطعوا لي قدمى يا سيدى! لست بطالبة مال أو عون فلا حاجة لي بالمال، وقبل أن تتابع حديثها قاطعتها قائلًا: "من هؤلاء ولماذا صنعوا كذلك"، تبسمت لتساؤلي كأنها تتعجب وتقلل منه! ثم قالت: "لماذا يهمك أمرى، ألا تدعني وشأني فلا طاقة لي بجدالك"، رجوتها أن تتحدث إلى أن اطمأنت لي وقالت: "أستحلفك بالله أيها الرجل أن تكتم عنى ما سأقول "أجبتها بنعم وإن كنت لا أعلم لماذا تريدني أن أكتم قولها!

أطلقت الصبية لسانها فقصت لي كيف أصبحت هنا فقالت: "لقد كان والداي يختصمان كل يوم وليلة، فتارة يضرب والدى أمي، وتارة يسوطها بحذائه، حتى طرد أمي من البيت ولم تعد، وما لبث أن تزوج غيرها، امرأة عبوس الوجه، سليطة اللسان، لا ينطق لسانها سوى السباب والكذب، كلما رأتني أوجعتني ضربًا، وإذا قدم والدى أخبرته أنى لعوب مخرب بالمنزل فيستكمل ضربه على جسدي، فكنت أطيعها في منزلنا فأكنس وأنظف حيث تأمرني، حتى سافر والدى، فأيقظتني ذات يوم وطردتني، ولم ترض أن تعيدني أو تدخلني إذ قدم الليل فلم أجد لي مأوىً أو فراشًا أريح عليه جسدي المنهك".

وتابعت الصغيرة حديثها: "نعم، تركت حارة منزلنا أتجول في الطرقات حتى رآني شاب أخذني إلى منزل به العديد من الصغار، ممتلئٌ بالبضائع والسيارات المحترقة الممزقة، وأطفال ممزقي الملبس، مشردي المأوى مثلى ولم أستطع أن أصرخ، ولما ركضت جروني على ظهري لأتسلخ من الأرض، وأغشى على من الخوف والفزع! ثم أيقظوني فأحضروا لي ملبسًا بالى، و"سيخ" متقد كأنه من جهنم صُنع، فكووا به ذراعي"، ثم كشفت الصغيرة عن كتفها لتريني حريقًا في كتفها، وتموجًا على جلدها، ولم تكد عيناي تنظر حتى سال الدمع منها.

وبينما هي تقص، سرحت ببالي كم من طفلة مثلها عوقبت بحرمانها بيتها، وحنان والديها، وسلبت البراءة من عينيها، وفارقت البسمة شفاهها، وكم من زوجين تزوجها دون أن يعقلا أمورهما فقط ليرضيا أبويهما أو من حولهما، ليت الشباب والأهل يعقلون أن الزواج ليس اثنين اجتمعا تحت سقف منزل واحد؟

وأشارت الشقراء إلى قدمها المبتورة وازداد نزف عينيها قائلةً: "لم يكن لي ذنب والله!، لقد أخبرني سيدى أنى سأتألم قليلًا لكنى سأرتاح بعدها وأعيش في راحة وأجمع مالًا غزيرًا، ثم ربطوا لي قدمي وأرجلي كالبعير الذى يسوقونه إلى "حوش"، وأغمضوا لي عيني، فبتروا لي يدى يا سيدى ولم يبالى أحد بهتافي ولا نحيبي"، ثم تركت مجلسنا ولم تخبرني باسمها".

فإلى متى سيتوقف مجتمعنا في طرح أطفال هكذا، مشوهي المظهر وجريحي الجوهر، معقدي الأنفس والقلوب، أما آن لنا أن نفكر قليلا قبل الزواج وأيضًا قبل الطلاق في حال أبنائنا؟

يحيي ياسين لأقعدن الطريق وأشتكى‎