د. سكينة العابد تكتب: د. عبد الرحمن عمر الماحي.. رجل بحجم أمة
الصباح العربيليس سهلا أبدا أن تكتب عن إنسان تشكلت شخصيتك في مرحلة مهمة من حياتك منه هو، لأنك تحس أن قطعة من وجدانك عالقة بتاريخك معه، وذاكرتك تتأسس على نبض الذكريات المشتركة ،لذلك وانت تكتب تنخرط في سياق من المشاعر الإنسانية التي تهتز عند كل حرف وكل كلمة.
كانت بداية معرفتي بأستاذي الفاضل _ رحمه الله تعالى وغفر له_ غير تقليدية، أو إن شئت قل هي معرفة روحية ووجدانية قبل أن تكون تعارفا مباشرا.
كنت كلما ألمح هذا الرجل وأنا أمر أمام مدرجات وأقسام الجامعة أحسه مختلفا، جذبتني سحنته الوقورة وشموخه المتواضع ، وأسرني وجهه الأسمر البرئ ، كانت رؤيته تبعث في نفسي الارتياح والفضول للتعرف عليه ، لكن حيائي منعني من الذهاب إليه ، فاستمر الوضع لثلاث سنوات ونيف ، أرى الرجل من بعيد لكن متأملة أن أدرس بين يديه ذات يوم..
حتى حل عامي الأخير بمرحلة الليسانس بجامعة الأمير عبد القادر ، هذا العام الذي حمل بشرى أن هذا الرجل والذي كنت أراه من بعيد سيكون أستاذي ولمدة عام كامل.
ومن أول درس اكتشفت أن أستاذي رجلا خلوقا جدا كما توقعت ، لا تفارق البسمة محياه، ولا أحد يسبقه للتحية وألقاء السلام ، كنت أمتلأ بحضوره لمجرد الاجتماع به، بل كان حضوره يملأ المكان كله ، مواجهته فيها ارتباك على متعة وفرح على هيبة ..
رجل جمع بين الشموخ في عزة وبين التواضع في قوة ، والعطاءفي عرفه سلوك يومي فكان بيننا رسولا من فرط المنح وغياب المنع.
كم كنا نستمتع وزملائي بمحاضراته القيمة التي يسترسل فيها كشلال دافئ وهادئ من الكلمات والمعلومات والأفكار والمعاني والتي كانت كلها بالنسبة لنا جديدة كونها كانت متعلقة بموضوع : تاريخ الدعوة في إفريقيا جنوب الصحراء، فكان ما قدمه لنا الجديد المفيد الذي فتح أعيننا على حقائق تاريخية وواقعية أضافت لرصيدنا المعرفي الشيء الكثير.
وعليه، لا أذكر أنني غبت عن محاضراته يوما ، وأحيانا كنت أتأخر لدقائق فأستأذنه في الدخول فكان يأذن لي بابتسامة عريضة وبترحاب كبير حيث كانت كلمة : أهلا وسهلا لا تفارق حديثه ، فكانت هذه المعاملة الطيبة الراقية تزرع في كل يوم بل في كل لحظة ورود الود والحب والاحترام والاطمئنان له والاستئناس به رحمه الله.
المواجهة بين الطالبة والأستاذ
وذات يوم ناقشت أستاذي حول نقطة الرق في الإسلام ، فكان أن طلب مني أن أعد بحثا في هذا الموضوع ، وحينها لا أدري لماذا صدمت وارتبكت أمام هذا الطلب !!
وتساءلت كيف سأواجه أستاذا بحجمه وأنا الطالبة الضعيفة الزاد ، فكان تحديا كبيرا لكنني كنت مجبرة على خوضته ، حتى جاء يوم البحث الذي أعددت مادته على عجل لقرب موعده، فاجتهدت وجمعت ما بدى لي كافيا ، لكن وفي الوقت ذاته كنت مرتبكة ، والسؤال الذي لم يبارحني : كيف سيكون رأي أستاذي فيما سأقدمه ..كان امتحانا صعبا جدا؟
ويوم الحسم جمعت حقائب شجاعتي وركائز بحثي وذهبت ، ترك لي أستاذي مكتبه وجلس أمامي كطالب علم بين صفوف زملائي وزميلاتي ينتظر بضاعتي فاستجمعت عصارة ما في العقل وما في الورق وقدمت ما رأيته مختصرا مفيدا ، فكان التوفيق حليفي لأنني كنت بين الحين والأخر استرق النظر نحو أستاذي لأرقب لغة ملا محه ، فكانت سمات الرضا تملأ وجهه الأسمر الأنيق. وكانت هذه هي نقطة العلمي الحقيقي بيني وبينه والذي جمعني به لغاية وفاته رحمه الله تعالى.
وجاء وقت الرحيل..
ومثلما جمعتنا الجامعة ، جمعنا بيته ومجلسه ، حيث كنت أزوره وعائلته وكان الأستاذ الوحيد الذي دخلت بيته ، ففتح لي مكتبه، ففتح لي مكتبته على مصراعيها أستعير وأقرأ ما أشاء ، كما تشرفت بإشرافه على رسالتي للماجستير قبل أن يغادر الجامعة سنة 1994.
وهذه نقطة تحول أخرى في علاقتي بأستاذي الذي وعدني ووعدته على التواصل الدائم ، فقد كان الفراق صعبا علينا كما كان صعبا على كل من عرفه ،لكن المهمة التي كانت بانتظاره أكبر وأعظم من أي شيء آخر ، وكنت حينها الوحيدة التي أعلم في الجامعة سبب عودته لبلاده ، وهو الإشراف على إدارة جامعة فتية ظهرت نواتها وهي جامعة الملك فيصل بأنجامينا عاصمة تشاد ، وهي جامعة إسلامية تدرس باللغة العربية لأبناء القارة الإفريقية من المسلمين ، فكانت بعدها اهتمامه الوحيد والذي شغله عني وعن الكثيرين نظر لعظم المهام والأعمال التي يقوم بها ، فقد قدم لهذه الجامعة كل مايملك من مال وجهد وعلم ، فتح العديد من الكليات ، واستقطب العديد من الأساتذة المتخصصين الذين كونوا أجيالاتحمل لواء اللغة العربية والدين الإسلامي كما كان يحلم رحمه الله_.
قدم لهذه الجامعة أكثر مما يحتمله بشر، من جهد ومال وتعب وعلم ونصيحة وسعي دؤوب، كانت الجامعة أهم لديه من ماله وأهله وولده، بناها حجرا حجرا ومن العدم ،فكون جامعة أصبحت في عهده من أهم الجامعات وأضحت منارة العلم في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء حيث استقطبت الطلاب من كل دول إفريقيا جنوب الصحراء والساحل الإفريقي، بعدما طورها وجلب لها كل ما تحتاجه من موارد علمية ومادية ‘من كتب ومراجع وأساتذة باحثين ومؤطرين ، واستطاع بذلك أن يجعلها ملاذا للكثير من هؤلاء خاصة بعد عقده للعديد من المؤتمرات العلمية والدولية المهمة والناجحة.
فارس العلم والدعوة الذي لا يترجل عن صهوته
في زياراتي العلمية للجامعة كنت أراقب أعماله وخطواته، كان يعمل بقوة عشرة رجال، فقد منحه الله قوة وصبرا وعطاء يندر وجوده، وكانت استراتيجيته في الجامعة ناجحة ووفق خطوات مدروسة ورصينة .
كان الدكتور الماحي بحجم أمة في تفكيره وعمله وأخلاقه، كان يعلم أن بناء الإنسان علميا وعلى أسس ثابتة هو بناء الأمة كلها ،وأن الجامعة بما تقدمه للطلبة والمجتمع كفيلة أن تنهض به ونحافظ على هويته ، حاضره ومستقبله، وأن الدعوة إلى الإسلام لا تتأتى بالكلام بل في الميدان.
وبقي الرجل على عهده ووعده إلى أن حان وقت الرحيل ، كم كان قاسيا ومؤلما أن ينهار هذا الجبل ، كم كان قاسيا ومؤلما أن يتوقف شلال العطاء الدافئ ، كم كان قاسيا ومؤلما أن يتجرع هذا الرجل العالم الإنسان ألم المرض بقوة وشجاعة ، لا أنسى أخر حديث هاتفي بيننا كان يوم عيد أضحى سنة 2013.
صوته هذه المرة مختلف جدا على الرغم من ادعاءه الزكام .
إحساسي كان غير ذلك وأنا التي أعرف الرجل لأكثر من عشرين عاما، حمل مرضه معه وجاورني بتونس ، فكان لا بد أن أزوره وأقف لجانبه ،فأعددت عدتي للسفر إليه والبقاء لجانبه قدر ما أستطيع، وفي صباح يوم الثلاثاء 12نوفمبر 2013 وصلني خبر الوفاة ، كم كان الخبر قاسيا ، مؤلما ، حينها لم أدر كم من الوقت مضى وأنا تحت وقع الصدمة ، لم أتوقع الرحيل وبهذه السرعة وعبر كل هذا البعد لفتني جيوش الحزن دفعة واحدة ، اعتصرتني حد البكاء والنحيب ، يا إلهي قد حرمت أن أراه لأخر مرة قبل الرحيل ، واستحضرت لحظتها كل شريط الذكريات.
الحقيقة أن هذه اللحظات بالذات لا اقوى على وصفها ، طعم مرارتها لا زال في حلقي كلما هفت ذكراها.. فصعب أن أتقبل أن سيد الصحراء كما دأبت على تسميته قد رحل ،وأن ابنة الجبل كما اعتاد أن يسميني لابد من تطوي الصفحة ،فالقصة إياها انتهت !!
على سبيل الختام.
وأخيرا ترجل سيد الصحراء عن صهوة مجده العلمي،ما عاد من هذا العالم ..
رحل دون وداع ، لكنه ترك ذكراه كالوشم في الذاكرة. لا ينمحي ..
رحم الله سيدي وأستاذي الدكتور عبد الرحمن عمر الماحي وأسكنه فسيح الجنان وأسأل الله أن يجمعني به في جنات الخلد.