بأقلام القراء

رضا نايل يكتب : تجاهل

الصباح العربي

عالمٌ رديء لا يوجد به مكان يخلو من القسوة والألم.. هكذا قال مواسيًا نفسه، وهو مُضطرب مُشوّش، فكل شيء داخله يغلي ويفور، فلا يستطيع جمع شتات نفسه التي بعثرتها نظراتها المليئة بالاحتقار والازدراء، وابتسامة باردة جامدة كمكعب من الثلج ترتسم على شفتيها النديتن كزهرة قرمزية في الصباح، اللتين تزمهما للأمام مُطيحة برأسها من أسفل لأعلى، فأخذ يضرب الوسادة بيديه، وأنفاسه تتقطع، ولون وجهه يشحب أكثر فأكثر، وهو يرغي ويزبد بكلمات مُبهمة حتى أذنه لا تستطيع تفسيرها، قابضًا يديه بقوة مُتوعدًا إياها بلذة الغاضب الذي تستحوذ عليه الرغبة في رد الإهانة، فيسترسل في التفكير فيها، ويلتقي بها في الخيال حيث لا أحد سواه، محاولًا أن يستبدلها بامرأة أخرى لها نفس القامة الطويلة، والقوام المائل للامتلاء الذي يبرز انحناءات جسدها فتخطف الأبصار، والوجه المربع ذو البشرة الأرجوانية، والعينان المستديرتان البرّاقتان كعملة معدنية جديدة، ولكن هذا البريق يتبدد كلما طال تفكيره فيها كما يتبدد السراب.

فذاكرته البالية كخرقة قديمة تتساقط منها الأشياء تعجز عن استبدال وجهها العابس في عينيه، وتلك النظرات الساخرة المُتعالية التي تجعله يعود بالخذلان في كل مرة يحاول فيها الولوج داخلها، فيتوقف عند الحدود رغم أن قلبه يحمل كلمة المرور التي تقرأها في صفحة وجهه، فعندما تلتقط أذنه إيقاع خطواتها من بين الضجيج الذي يحدثه زائرو المرضى في الممر الطويل الذي تتراص على جانبيه حجرات المستشفى، يتجمّد من الخوف وتنزلق حبات العرق الباردة على جسده الملتهب، فلقاؤها كابوس، عذاب يصطلي بناره التي أوقدها الشوق، فحتى الشفقة والعطف لا تجود بهما عيناها على هذا المريض، ولما تدخل الحجرة الأخيرة في الممر تتزاحم الدماء في وجهه الذي كساه السقم باللون الأزرق فيتقد كالجمر وكأنه نار تصحو من تحت الرماد، وعيناه الغائرتان بمحجريهما تراوغان وهو يستجمع شجاعته لينظر إليها بارتباك واضطراب شديدين حتى يكاد صوت دقات قلبه العليل يطغى على صوتها وهي تسأل أباها عن أحواله متجاهلة إياه، رغم أن الحجرة لا تحتوي إلا على سريرين متقابلين بجوار كل منهما خزانة صغيرة ذات ثلاثة أدراج، فيضع رأسه على الوسادة التي كانت تستعد لتتلقى ضرباته بعد ما تخرج، ولكن الآلام تتكاثر عليه وتبتلعه كالرمال المتحركة، وهو لا يدري أهي آلام المرض المتراكمة، أم آلام الشوق الذي زاد قلبه وهنًا على وهن، واستهلك ما بقى من روحه التى ما كان يهتم منذ نفخت فيه بوجودها في جسده، فهذا الوجود هو الجحيم.

رضا نايل يكتب تجاهل المرضي