نبيل عبد الفتاح يكتب.. ما بعد كورونا.. الحياة فى الدائرة البلورية
الصباح العربيإحدى صدمات الجائحة أدت إلى فجوات ثقة بدأت فى الظهور بين نمط القيادات السياسية والحزبية فى الدول الأكثر تقدما، وبين المواطنين، وهو ما برز فى عدم قدرة الرئيس الأمريكى ترامب على النجاح رغم حصوله على أصوات ضخمة تشير إلى الانقسامات الحادة فى المجتمع الأمريكى، وذلك للفشل فى مواجهة الجائحة، والاستخدام السوقى لخطاب التغريدات، ونمط من الشعبوية السياسية والعنصرية المتطرف. لم يقتصر عجز هذا النمط القيادى على إدارة شئون بلاده فى ظل جائحة عاتية، وإنما أدى إلى المزيد من الجروح على الوجه الأخلاقى النسبى الذى روج له آباء الاستقلال وما بعدهم من قادة حول النموذج الأمريكى للحريات والديمقراطية، فى عقود الحلم الأمريكى! بعض قادة أوروبا فشلوا فى مواجهة الجائحة، وحاولوا توظيف حالة الاستثناء، فى فرض الرقابة الفعلية والرقمية على الحريات العامة والفردية، فى ظل انتشار البطالة، وبعض العمليات الإرهابية على نحو ما حدث فى فرنسا، مع فشل السياسة الأوروبية الموحدة فى مواجهة بعض المشكلات شرق المتوسط مع تركيا! كشفت الجائحة عن قصور نمط العقل السياسى السائد ما بعد انهيار الإمبراطورية الماركسية، وصعود بعض السياسيين الفرنسيين التكنوقراط والبيروقراطيين ورجال المال وكرادلة السوق، والذين يعتمدون على طبقة الخبراء من نظرائهم، وقواعد اجتماعية وانتخابية قلقة وسائلة، وغاضبة من السياسات النيوليبرالية المتوحشة، لاسيما العمال والمزارعون وشرائح الطبقة الوسطى الوسطى والصغرى، على نحو ما ظهر فى احتجاجات ذوى السترات الصفراء قبل الجائحة. عقل سياسى وفنى يفتقر إلى الخبرات السياسية المتراكمة، نظرًا لضعف وتآكل ميراث وتقاليد وخبرات الأحزاب السياسية الكبرى ما بعد الحرب العالمية الثانية، وغياب قادة سياسيين كبار ذوى ثقافة رفيعة، وخبرات سياسية متراكمة من مثيل فرانسوا ميتران ثعلب الحياة الفرنسية والأوروبية وما بعده جاك شيراك السياسى التكنوقراطى. هذا الجيل الحالى من السياسيين الفرنسيين، يفتقر إلى ملكة الخيال السياسى والرؤى المستقبلية التى تعتمد على المعلومات والبحوث والدراسات، والحساسية السياسية فى عملية صناعة القرار، خاصة فى لحظات الأزمات الكبرى والاستثنائية، من مثيل جائحة كورونا ، والتى تشير إلى عدم إيلائهم أهمية لسياسات البحث وتمويلها خاصة مراكز البحث فى العلوم الطبيعية و الفيروسات والطبية.
خذ على سبيل المثال، عدم اهتمامهم ببعض المشكلات الاجتماعية التى تمس الاندماج الاجتماعى، ومفاهيم الدولة/ الأمة فى ظل التطورات العولمية وما بعدها، وحالات التشظى والتفكك والإقصاءات عن النظام الاجتماعى لبعض الأقليات المسلمة والإفريقية، وبروز أجيال جديدة من أبناء الثورة الرقمية يحملون معهم لغة مختلفة وتفكيرا مغايرا، ومقاربات مغايرة للظواهر الاجتماعية والسياسية، فى ظل تآكل وانهيار نظام ورموز وسياسة المعنى، مع نهاية عصر السرديات الكبرى وفق ليوتار، وتفكك أبنية المعانى التى ارتبطت بها، فى ظل تطورات عاصفة فى مجال المعلومات والرقميات، ومعها بدايات الثورة الصناعية الرابعة. أدت الجائحة إلى ارتباكات، وتشكك فى تشخيصات أهل الخبرة، فى مجال الطب و الفيروسات والوقاية، فى ظل اضطراب خطاباتهم الفنية، وتناقضاتها، وما يبدو أنه العجز عن مواجهة موجات جائحة فيروسية وضعت بعض المصير الإنسانى فى اختبار صعب وازدادت فجوة الثقة مع العلماء وكبار الأطباء والسياسيين، وذلك على الرغم من بشائر الوصول إلى لقاحات لمواجهة الفيروس الخطير.
لا توجد قيود على تجارب الذكاء الصناعى، والتقنية، بما فيها الاستنساخ الحيوانى ، وثمة أنباء عن حالات استنساخ إنسانى فى آسيا غير معلن عنها للحظر القانونى والدينى والأخلاقى فى أوروبا وأمريكا وغالب دول العالم! ومؤخرا، الأخبار عن تهجين قرد بجينات بشرية من خلال الهندسة الوراثية، وهى مؤشرات مثيرة للاهتمام أيا كانت نتائجها على طرائق التحول إلى المستقبل الغائم، والغامض الذى سيشمل حياتنا، وسيؤثر على الثقافة والعقل الإنسانى والأديان، ولاهوتها وتفسيراتها الموروثة والمحدثة لنصوصها المقدسة والتأسيسية والوضعية التأويلية! لا شك أن ذلك سيشمل غالب الأنظمة الدينية الوضعية أيضا، خاصة مع التداخل بين الهندسة الوراثية والذكاء الصناعى والرقمنة وعالم الروبوتات الفائقة الذكاء، حيث لن يعود الإنسان مركز الكون.
عالم الطبيعة والكائنات الحية و الفيروسات وغيرها من الأمراض، سيكون لديهم ردات على هذه التحولات الإنسانية وما بعدها، وعلى أنماط تعاملنا وتفاعلنا مع البيئة والنظام الايكولوجى، وعلى الرأسمالية النيوليبرالية المتوحشة. من ثم نحن أمام تحولات صادمة، والمرجح وفق تحذير بعض العلماء من احتمال وجود ما يصل إلى 850 ألف فيروس غير مكتشف فى الطيور والثدييات يمكن أن يصيب البشر يوما ما وفقا للديلى ميل، وثمة حاجة علمية وتقنية تؤدى إلى الحيلولة ومنع ظهور الأمراض الحيوانية المنشأ بدلا من الاستجابة لها وفق ما هو سائد من خلال تدابير الصحة العامة واللقاحات الجديدة، وهو ما يتطلب وفقا لهم إنهاء الاستغلال المستدام للبيئة بما فيها إزالة الغابات والزراعة المكثفة واستهلاك الأنواع البرية، وأشاروا إلى أن استهلاك الحيوانات يؤدى إلى زيادة الاتصال بين الحياة البرية والماشية والبشر، ومن ثم أدى ذلك تقريبا إلى جميع الأوبئة. تقرير صادم، لكنه يشير إلى أننا إزاء مرحلة تحول خطيرة فى حياتنا، وتحتاج إلى عقول وأخيلة سياسية رصينة، ونمط قيادات مختلف جيليا وفكريا وسياسات مغايرة تماما.. نقلا عن بوابة الأهرام