الدكتور مصطفي الفقي.. يكتب مصر التى كانت.. حفلات أم كلثوم نموذجا
الصباح العربيفرض على الحظر الاختيارى بسبب وباء 2020 أن أقضى فترات طويلة فى المنزل وأن أتابع التلفاز الذى لا أشاهده كثيرًا، واتجهت إلى المحطات التليفزيونية التى تعيد برامج الماضى وتجتر ذكريات الزمن الذى رحل، وأصبحت أقضى كل ليلة مع إحدى سهرات أم كلثوم فى حفلاتها خلال الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وقد كان صوتها الذى يشدو والنغم الذى يصدح مثارًا لرفع المعنويات والانتصار على المخاوف الناجمة عن الكورونا اللعينة، وكان أكثر ما شد انتباهى ولفت نظرى وطرح عددًا من التساؤلات أمامى هو مظهر الحاضرين من أبناء الطبقة المتوسطة المصرية الذين يحتشدون رجالًا ونساءً بشكل متحضر وملابس لائقة، ولاحظت وجود السيدات السافرات مع أزواجهن يجلسن فى احترام ووقار قبل أن يتحول المجتمع المصرى مائة وثمانين درجة عقب نكسة عام 1967 وما تلاها بعدة سنوات من اختلاف الأردية وظهور أغطية الرأس للنساء، بحيث أصبحنا أمام تغيير يصعب تفسيره إلا بأمر واحد وهو أن المصريين توهموا أن ذلك هو طريق الخلاص من آثار نكسة يونيو وأسبابها، ومازلت أتذكر وأنا طالب فى الجامعة فى النصف الأول من ستينيات القرن الماضى أن زميلاتنا فى الكلية كن يرتدين الملابس القصيرة ويتصرفن بحرية كاملة ولم أشهد حادث تحرش واحدا طوال سنوات دراستى الجامعية الأربع، بل كنا نجلس فى كافيتريا الكلية ومعنا زملاء من كليات أخرى ويسودنا جميعًا روح الوئام والبساطة والمحبة، وبحكم موقعى كرئيس لاتحاد طلاب الكلية لم تصلنى شكوى واحدة عن تصرف غير لائق سواء فى مبنى الكلية أو الكافيتريا أو فى استاد الجامعة أو خلال إحدى الرحلات الترفيهية للأسر الجامعية، وهى نفسها مصر التى تذكرتها وأنا أشاهد حفلات «الست» التى يذيعها التلفاز عن تلك الفترة الذهبية من الليبرالية الاجتماعية رغم تراجع الليبرالية السياسية، وذلك أمر يطرح التساؤل المشروع ويثير الدهشة، فقد كان للديمقراطية نمط خاص بالعصر الناصرى يرتبط بكاريزما القائد وأبوية الزعيم، ورغم غياب المشاركة السياسية الواسعة والاقتصار على تنظيم سياسى واحد فى ظل تحالف قوى الشعب العاملة إلا أننا شعرنا بأن رد الفعل الأخلاقى داخل المجتمع كان يبدو سليمًا وصحيًا ومتماشيًا مع روح العصر وتطور الحياة، ولكن الدنيا اختلفت والأمور تبدلت وظهرت تعبيرات جديدة مثل ال تحرش فى أماكن العمل والدراسة بل فى الشارع خصوصًا فى المناسبات والعطلات والأعياد، وذلك معناه أننا أغلقنا أبوابًا ففتحت نوافذ، وأن نظامنا التعليمى قد تراجع، وأن ثقافتنا قد تقهقرت فكان ما شهدناه بعد ذلك منذ منتصف سبعينيات القرن الماضى حتى الآن، وبالمناسبة فأنا ضد النقاب مائة بالمائة ولكننى لست ضد الحجاب فتلك حرية شخصية فى وقت يبدو فيه اللجوء إلى النقاب مراوغة أمنية، كما أن غطاء الرأس للمرأة لم يكن دائمًا لأسباب دينية ولكنه كان تعبيرًا عن الاحتشام لدى الأسر المحافظة ولا بأس من ذلك أيضًا، فإذا كنا نقبل المايوه على الشواطئ فإننا نقبل الحجاب فى الشوارع شريطة ألا يكون ذلك معيارًا للأخلاق الحميدة وأن ما عداه رجس من عمل الشيطان، ولعلى أسوق هنا بعض الآراء:
أولًا: هناك من يرى أن المؤسسة الدينية ورجال الدين خارجها لم يبذلوا جهدًا حقيقيًا فى خدمة صحيح الإسلام ووسطية الدعوة رغم اعترافنا بما قدمه الأزهر الشريف عبر القرون، إلا أن المقارنة بين ما يقدمه فى جانب وبين حركة المجتمع ومسار التاريخ فى جانب آخر لا تبدو متكافئًة خصوصًا أن الإسلام يتعرض لسهام مسمومة من اتجاهات مختلفة تحاول ربط ذلك الدين بالماضى وحده وعزله عن الحاضر والمستقبل وتصويره على أنه لا يواكب التطور، وأنه أصبح عصيًا على التجديد وذلك بالطبع افتراء واضح، ف الإسلام جعل التفكير فريضة وأعلى قيمة العقل وأقر أن ما تجمع عليه الأمة هو الحق، لذلك فإن إلقاء المسئولية على الدين الإسلام ى هو ظلم وعبث ولكن قد تقع المسئولية على قلة من رجاله داخل المؤسسة الدينية الرسمية أو أكثرية خارجها، فقد تعرض الإسلام فى السنوات الأخيرة لهجمة شرسة من فتاوى يطلقها من هم غير مؤهلين لها فضلًا عن تفسيرات مغلوطة لمبادئ ذلك الدين العظيم على نحو سمح باجتراء غير المسلمين على الرسالة المحمدية والتطاول على رسولها الكريم صلى الله عليه وسلم.
ثانيًا: إن تقاليد مصر الاجتماعية تميزت بالثبات عبر القرون فى قاطرة منتظمة تشدها الطبقة المتوسطة المصرية، ومرة أخرى أقول إننى عندما أشاهد حفلات أم كلثوم القديمة أشعر بأننا الآن فى عالم آخر ودنيا مختلفة، فلم يكن الوقار مرتبطًا بزى معين أو نمط خاص فقد كانت حرية اختيار الملابس مسألة شخصية فى إطار الاحتشام التقليدى واحترام قيم المجتمع ولم تكن هناك محاولات لإقحام الدين فى هذا الشأن، لذلك فإننى أنظر إلى تلك الأيام الخوالى باعتبارها النموذج الحقيقى للشخصية المصرية فى القرن العشرين.
ثالثًا: إن الدعوة إلى تجديد الخطاب الدينى يجب ألا تؤخذ بالحساسية التى ألاحظها لدى بعض كبار علمائنا الأجلاء، فثوابت الدين بدءًا من الكتاب والسنة المطهرة وسيرة الرسول عليه الصلاة والسلام وتوقير الصحابة هى أمور لا يتعرض لها التجديد ولكنه يسعى فقط لإزالة الشوائب ونفض غبار السنين عن الشريعة السمحاء ووضعها فى مكانها اللائق بعيدًا عن التجاوزات والاختلاقات والدعاوى الباطلة، ولذلك فإن مصر الإسلام ية تبدو على حق وهى تدعو للتجديد فى أساليب الدعوة وأنماط التفسير دون مساس بجوهر العقيدة ولكن فى محاولة لتحرير العقل الإسلام ى وإطلاقه ليواكب روح العصر بل يسبقه أحيانًا بفضل الرؤية البعيدة والنظرة الشاملة للشريعة الإسلام ية والفقه الصحيح المتفق عليه.
إن جوهر الإسلام ينطق بغير مانراه حاليًا، فهو دين صالح لكل زمان ومكان ولكن حرروا العقول وافتحوا القلوب واحتفوا بالآخر وتعاونوا مع الغير خصوصًا أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم!..نقلا عن صحيفة الأهرام