د.أميرة عبدالعاطي تكتب: شاي باللبن بالنعناع
الصباح العربيصديقي العجوز ، كان معتقلاً سياساً في زمن من الأزمنة الماضية ، هذا ما كنت اسمعه .
حديث تلتقطه أذني فأعلم منه أن صديقي العجوز يعاني أثر إعتقاله خللاً ما لا أفهمه ، شئ يرتبط بموسم الباذنجان والملوخية ، هكذا كانوا يقولون .
حالته الصحيه تسوء أحياناً في هذا الموسم بينما بالنسبة لي كان هو صديقي الذي أشعر في وجوده بالأمان ، سواءً كان قد خرج من المعتقل أم خرج من بطن أمه لا يعنيني هذا .
صداقتي معه بدأت بعد خروجه من المعتقل بسنوات طويلة ، ربما يكون قد تغير بالنسبة لمن كانوا يعرفونه قبلاً ولكن ولأني لم أكن قد ولدت بعد فهو بالنسبة لي صديقي الهادئ الصامت صاحب الحجرة الواسعة .
تلك الحجرة التي لاتسمع فيها سوي أصوات المقرئين في إذاعة القرآن الكريم وصوتي أثرثر بجواره وهو يبتسم لي كعادته .
رائحة غرفته تختلف قليلاً عن رائحة باقي البيت فهي تشبه إلي حد ما رائحة كريم الحلاقة ، وحلاقة ذقنه كانت شرطي كي أمنح جدو قبلة كبيرة وحضن كبير وإلا صرخت فيه "دقنك بتشوكني يا جدو"
أشعة الشمس كانت تدخل حجرته بشكل إستثائي ،
كانت أشعة الشمس تتخذ شكلاً مخروطياً مضيئاً فوق الأرضية الخشبية القديمة وأجلس أنا عند قاعدة هذا المخروط اسلم وجهي للشمس فتكسب عيني لوناً أفتح مما هما عليه وأبتسم إلي صديقي العجوز ممتنة له علي منحي هذا السلام النفسي.
ويبدو أن وجودي كان يمنحه هو الآخر سلاما نفسياً فكان ذلك واضحاً عند إستغراقه في النوم كالأطفال عند سماعه حديثي فانسحب بهدوء لكي يغفو تاركة عالمي الخاص في حجرته .
كان يعتقد أن هناك من سوف يدّس له السمّ في الطعام وكان ينسي هذا الإعتقاد في وجودي بجواره منحني الطمأنينه ومنحته الأمل دون أن يقرر أحد منا ذلك.
لم أكن أكترث لكونه يقضي معظم وقته في البيت ، لم أسأل أبداً عن عمله ، لماذا يرتدي البيچامه الكاستور معظم الوقت ؟ لايحب أن يغير لونها وفي الشتاء يرتدي روب من الصوف وطاقية صوفية سميكة .
تأتي عليه أوقات لم يكن يهتم بنفسه كثيراً ، لم يكن كل هذا يهم طفلة في الرابعة من عمرها .
الود الموصول مع صديقي العجوز هو ما كان يهمني حقاً .
في يوم لقاء عادي دخل المطبخ لكي يعدّ لي شاي باللبن كالعادة ووضع البسكوت في طبقي وأعد لنفسه شاي بلبن ثم وضع عليه بعضاً من النعناع الأخضر ، فسألته لماذا تضع النعناع أخضر علي الشاي باللبن يا جدو؟
قاللي تحبي تجربي ؟ فقلت بحماس "حطلي أنا كمان نعناع " ووجدته مشروباً سحرياً لم أشرب مثله أبدا
، وأسعده أن مشروبه أعجبني
وعندما رجعت إلي البيت في هذا اليوم العادي حدث ما هو غير عادي ، عندما أخبرت أمي أني شربت شاي باللبن بالنعناع عند جدو أحمد قالت لا أحد يشرب الشاي باللبن بالنعناع إلا المجانين .
لم أجرؤ علي تكرار مقولتها لأحد أو لنفسي فهذا معناه أن جدو أحمد مجنون ، لن أقول لها أنه هو من صنع الشاي باللبن بالنعناع فلن أطيق أن يصف أحد صديقي العجوز بالجنون .
ربطت بين ما قالته أمي وبين ما كنت أسمعه عن موسم البذنجان والملوخية
كان حبي له أكبر من قدرتي علي استيعاب هذا التعريف القاتل
واذا كان فيما يفعله هذا الرجل مرادفاً للجنون فلسوف يصبح العالم مكاناً أفضل إذا امتلأ بالمجانين علي شاكلته ، ربما تكون عقولنا كبالغين قاصرة الإدراك ولكن قلوبنا تدرك أكثر.
قلب هذا الرجل قادر علي أن يحتوي العالم أجمع ويبعث فيه الدفء وإن كان في القطب الجنوبي وهذا ما أدركه قلبي كطفل وهو إدراك أعظم من أن يراه البالغون
هو في عيني شخص قد حدث له أمراً عارضاً لم يكن قادراً علي قبوله وعاش عمره يحاول أن يقبل ما حدث ، وأنا أحبه وأقبله بكل ما فيه ولم أر ما يشوبه أبداً
شئ واحد لم أتخطاه إلي الآن في قصتي مع صديقي العجوز ، الشاي باللبن بالنعناع لازلت أخشي أن أشربه فأصاب بالجنون .
كاتبة المقال :
د. أميرة حسن عبد العاطي
مدرس بكلية العلوم