حرب الاستنزاف.. الطريق الوحيد إلى نصر أكتوبر 1973
الصباح العربيتسجل الدوائر العسكرية العالمية، أن الطريق المصري إلى نصر أكتوبر 1973 بدأ خلال أسبوع واحد فقط من هزيمة 1967، وفي حالة غير مسبوقة على الصعيد العالمي.
كانت حرب الاستنزاف وحائط الصواريخ، «كلمة السر» في نصر أكتوبر، وبدأت حرب «الألف يوم»، كما أطلق عليها بعض الإسرائيليين، أو «حرب الاستنزاف» كما أطلق عليها الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، عندما تقدمت المدرعات الإسرائيلية صوب مدينة بور فؤاد بهدف احتلالها يوم 1 يوليو/ تموز، 1967 ( بعد ثلاثة أسابيع تقريبا من النكسة)، فتصدت لها قوة من الصاعقة المصرية بنجاح فيما عرف بمعركة «رأس العش»، وتكبدت إسرائيل أول هزيمة وخسائر «موجعة»، ثم تصاعدت العمليات العسكرية خلال أطول حرب استنزاف في العالم، استمرت 3 سنوات.
ولا يمكن الحديث عن حرب أكتوبر 1973 إلا بالحديث أولا عن حرب الأستنزاف لأنها حرب رد الأعتبار للجيش المصري، وهي أيضا حرب أكدت معدن الجندي المصري، كما انها حرب أثبتت للعالم رغم قسوة الهزيمة أن الجيش المصري لم يفقد إرادة القتال ، وأنه قادر على رد اعتباره ، هذا الى جانب أنها كانت بمثابة ميدان التدريب التي استعد من خلاله الجيش المصري لحرب أكتوبر 1973، فهي التي مهدت الطريق لملحمة العبور فلولاها ما كان العبور العظيم .
انتصارات الأمة في السادس من أكتوبر/ تشرين أول 1973 تستدعي قراءة متواصلة في دلالات الانتصار الكبير، واستعراض المناخ العام قبل المواجهة العسكرية، بعد أن أصبحت المبادأة في يد المصريين بعد تنشيط الموقف العسكري، وتسخين جبهة القتال، وتحديد استراتيجية المراحل الثلاث: الصمود ثم الردع ثم التحرير.
وخلال هذه الأيام الأولى من صدمة النكسة، كان الجندي المصري قد عرف طريقه للعبور إلى الشاطئ الشرقي من القناة.
أول مواجهة حقيقة في «رأس العش»
وبدات سلسلة من العمليات العسكرية الناجحة بعد أيام فقط من النكسة، فتحت الطريق للمواجهة الحاسمة في 6 أكتوبر 1973، بعد أن دخل الجندي المصري في مواجهات مباشرة مع القوات الإسرائيلية،حدث هذا في معركة رأس العش، في الساعات الأولى من صباح 1 يوليو/ تموز 1967، وكانت المنطقة الوحيدة في سيناء التي لم تحتلها إسرائيل أثناء حرب يونيو/ حزيران 1967.. وعندما وصلت القوات الإسرائيلية إلى منطقة رأس العش جنوب بورفؤاد، وجدت قوة مصرية محدودة من قوات الصاعقة المصرية قوامها 30 مقاتلًا مزودين بالأسلحة الخفيفة، وفي حين كانت القوة الإسرائيلية تتكون من عشر دبابات مدعمة بقوة مشاة ميكانيكية في عربات نصف مجنزرة، وفوجئت القوة الإسرائيلية بالمقاومة العنيفة للقوات المصرية التي أنزلت بها خسائر كبيرة في المعدات والأفراد أجبرتها على التراجع جنوبا، وعاود جيش الاحتلال الهجوم مرة أخرى، إلا أنه فشل في اقتحام الموقع بالمواجهة أو الالتفاف من الجنب، وكانت النتيجة تدمير بعض العربات نصف المجنزرة وزيادة خسائر الأفراد، وانسحبت القوات الإسرائيلية بعد صدمة الهزيمة غير المتوقعة بعد ثلاثة أسابيع من النكسة.
إغراق المدمرة البحرية الإسرائيلية «إيلات»
وبعد أربعة شهور تقريبا، قامت القوات البحرية بإغراق المدمرة البحرية الإسرائيلية إيلات، وهي من طراز HMS Zealous R39 في البحر الأبيض المتوسط، أمام مدينة بورسعيد في 21 أكتوبر/ تشرين أول 1967 وكانت إيلات، بدأت في العربدة داخل المياه الإقليمية المصرية ليلة 21 أكتوبر/تشرين الأول في تحد سافر..وعملية إغراق المدمرة الإسرائيلية إيلات بواسطة 4 صواريخ بحريه سطح/ سطح، كانت هي الأولى من نوعها في تاريخ الحروب البحرية، وبداية مرحلة جديدة من مراحل تطوير الأسلحة البحرية و استراتيجيات القتال البحري في العالم، فقد تم في هذه العملية تدمير مدمرة حربية كبيرة بلنش صواريخ للمرة الأولى في التاريخ.
وهي عملية مختلفة تماماً عن الثلاث عمليات الأخرى بالهجوم علي ميناء إيلات، والتي تم فيها إغراق 4 سفن نواقل وتفجير الرصيف الحربي للميناء.
تدمير الغواصة الإسرائيلية «داكار»
وبعد 19 يوما فقط ،وحين سلمت البحرية البريطانية، الغواصة الحديثة «داكار» لإسرائيل، وعند مقربة من الحدود المصرية الغربية، صدرت أوامر، يوم 10 نوفمبر/ تشرين الثاني 1967 لقائد الغواصة بالتجسس علي أحواض لنشات الصواريخ المصرية بمقر قيادة القوات البحرية المصرية بالإسكندرية، وتلقت هيئة عمليات القوات البحرية من عدة قطع بحرية، تفيد بأن هناك صوت يبدو وكأنها غواصة تقترب من حدود مصر الإقليمية، وبسرعة اتخذ القرار بالهجوم ، وبدأت المدمرات بإلقاء القذائف واحدة تلو الأخري وبأعداد كبيرة، حتى صدرت أوامر مباشر من قائد الغواصة الإسرائيلية بالنزول الي أقصي عمق ممكن لتفادي الصدمة الانفجارية التي يمكن وحدها أن تؤدي الي تدمير المعدات الإلكترونية داخل الغواصة، وبعد عدة ساعات شوهدت بقع زيتية ومخلفات تطفو علي سطح المياه ما قطع الشك باليقين ان الغواصة قد قضي عليها.
بداية مشروع الانتصار الكبير في السادس من اكتوبر..يمكن تسجيلها من الوقائع التاريخية التي سجلتها العسكرية المصرية:
1 ـ تأسيس مجلس الدفاع الوطني عام 1968
أنشأ الزعيم الراحل جمال عبد الناصر مجلس الدفاع الوطني عام 1968 وكان يتكون من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء و5 وزارات أساسية هي «الدفاع، والداخلية، والخارجية، والإعلام، والمالية»، بالإضافة إلى باقي الوزارات وعدد من الجهات السيادية، وكان الهدف من إنشاء هذا المجلس هو وجود تنسيق فعلى بين مؤسسات الدولة لتذليل العقبات في سبيل اتخاذ قرارات سريعة وحاسمة والابتعاد عن الإجراءات الحكومية الروتينية المعروفة، وتسهيل كل العقبات التى تواجه أى خطوة فى الحرب.
2 ـ الإعداد الاقتصادي
وتحول الاقتصاد المصري قبل حرب السادس من أكتوبر 1973 إلى «اقتصاد الحرب»، وذلك بمعنى تعبئة جميع المصانع ومنتجاتها لاستيفاء احتياجات القوات المسلحة أولا، كما لجأت مصر ضمن خطتها في خداع العدو إلى توقيع تعاقدات دولية لتوريد السلع الإستراتيجية مثل القمح على مدد زمنية غير منتظمة حتى لا تلفت انتباه العدو إلى أن الدولة تقوم بتخزينها، وقد تم تحقيق الاحتياطي اللازم من هذه السلع ليكفى احتياجات الدولة لمدة 6 أشهر قبل الحرب مباشرة.
3 ـ الإعداد العسكري
استطاعت مصر أن تعيد بناء القوات المسلحة وتكوين قيادات ميدانية جديدة، وإعداد القيادات التعبوية الجديدة، وإعادة تشكيل القيادات في السلاح الجوى، وإدخال نظم تدريب على كل ما هو أساسي للحرب، وكذلك التدريب على مسارح مشابهة لمسرح عمليات الحرب.
فتم إنشاء سواتر ترابية مماثلة لخط بارليف على ضفة النيل وتدريب القوات على عبورها، كما احتفظت القوات المسلحة بالقوة الرئيسية من المجندين دون تسريحهم بعد انتهاء فترة تجنيدهم حتى أن بعض المجندين استمروا في تجنيدهم لمدة 7 سنوات.
كما استعدت القوات المسلحة للحرب بكل ما هو حديث في تكنولوجيا التسليح وقامت بتطوير أسلحة المشاة واستبدلت الدبابات القديمة بالجديدة وتم إحلال المدفعية القديمة بأخرى متطورة وتم الدفع بطائرات حديثة وإدخال طرازات جديدة من الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى، إلى جانب الصواريخ طويلة المدى وكذلك تطوير معدات المهندسين العسكريين وأجهزة الكشف عن الألغام وإدخال أسلحة غير تقليدية ابتكرها مهندسون مصريون مثل قاذفات اللهب المحمولة على الأكتاف ومسدسات المياه التي استخدمت في هدم خط بارليف الرملى.
كما أصدرت القيادة العامة توجيهاتها قبل الحرب للتدريب على العمليات بدأ من إعداد الجندي للقتال حتى إعداد الوحدة والوحدة الفرعية للتشكيل للحرب، والتدريب على أسلوب اقتحام الموانع المائية والنقاط القوية المشرفة على حمايتها، وأسلوب الدفاع عن مناطق التمركز والوحدات والمعسكرات لمواجهة عناصر «المتكال» المتمركزة خلف خطوط الدفاع الإسرائيلي.
4 ـ حائط الصواريخ
ولم تشعر مصر بالاطمئنان لقدرتها على اتخاذ قرار الحرب الشاملة إلا بعد أن نجحت فى إنشاء «حائط الصواريخ» المضاد للطائرات على طول خط المواجهة مع إسرائيل وفى العمق المصرى، وتم بناؤه فى عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وحمى الجيش أثناء حرب أكتوبر 1973.
استغرق بناء حائط الصواريخ 40 يوما، وكان يضم مجموعات منفصلة من قوات الدفاع الجوى: «المدفعية المضادة للطائرات، ووحدات الصواريخ، وأجهزة الرادار والإنذار»، إضافة إلى مراكز القيادة المشتركة التى أنشأتها مصر عام 1970 بهدف صد الهجمات الجوية الإسرائيلية، وكان لهذا الحائط دور كبير فى تحييد القوات الجوية الإسرائيلية خلال حرب أكتوبر 1973، مما سهل عملية العبور واجتياز خط بارليف وإتاحة رءوس الكبارى على الضفة الشرقية لقناة السويس.
ومع تصاعد «الصدمة والرعب» في الجانب الإسرائيلي من خسائر حرب الاستنزاف، اقترحت أمريكا تسوية سلمية عرفت بمبادرة روجرز في 3 خطط، وأعلنت مصر موافقتها على المبادرة الأمريكية لكسب الوقت لتجهيز الجيش واستكمال حائط الصواريخ، والاستعداد للعبور وفق الخطة العسكرية التي تم إعدادها وقتئذ «غرانيت 1» ثم عدلت لـ «غرانيت 2» ثم خطة «المآذن العالية» تحت إشراف رئيس هيئة أركان القوات المسلحة المصرية، الفريق سعد الدين الشاذلي، وحققت انتصار أكتوبر1973
وكان المشهد الأخير.. في الثانية من ظهر يوم السادس من أكتوبر/ تشرين الأول عام 1973، بدأ أكثر من ألفي مدفع ثقيل قصفه لمواقع العدو في نفس اللحظة التي عبرت فيها سماء القناة مائتان وثمان طائرات تشكل القوة الجوية المكلفة بالضربة الجوية الأولى التي أصابت مراكز القيادة والسيطرة الإسرائيلية بالشلل التام.
وفى نفس الوقت كان آلاف المقاتلين بدؤوا النزول إلى مياه القناة واعتلاء القوارب المطاطية والتحرك تحت لهيب النيران نحو الشاطئ الشرقي للقناة، بعد ذلك بدأت عمليات نصب الكباري بواسطة سلاح المهندسين، وتحطيم أسطورة الجيش الذي لا يقهر.