أحمد الخميسي يكتب: الأغنية تدخل إلى الشماتة والعبودية
الصباح العربيظلت الأغنية المصرية منذ نشأتها محكومة بالتيار العاطفي الذاتي، والوطني العام، لكن ذلك لم يمنع الظهور القوي لتيار آخر يغازل بكل الطرق غرائز المستمع الجنسية بحثا عن الرواج السريع، وفي ذلك السياق لم تخل حتى أغنيات أم كلثوم في بداية حياتها من طقطوقة عام 1926 تقول فيها: " الخلاعة والدلاعة مذهبي.. من زمان أهوى صفاها والنبي"، وسبقت ذلك الست نعيمة المصرية في أغنيتها : " هات القزازة واقعد لاعبني.. دي المزة طازة والحال عاجبني"، وأغنيات مثل :" ما تخافش عليا أنا واحده سيجوريا.. في العشق واخده البكالوريا". كما غنت منيرة المهدية سلطانة الطرب : " بعد العشا يحلى الهزار والفرفشة". ولم يخل تاريخ الأغنية قط من ذلك اللون الذي يغازل لدي المستمع الغريزة والمخدرات والخمور إما صراحة أو تلميحا ، هذا كله مفهوم بحكم أن الأغنية أكثر الأشكال الموسيقية انتشارا وربحية، في ظروف لم تنتشر فيها الأشكال الموسيقية الأخرى مثل الباليه والسيمفونية وقطع الموسيقا البحت. مفهوم إذن اتساع نطاق ما يسمى " تيار الأغاني الهابطة" وركائزه، لكن ليس مفهوما ولا بأي حال ما نسمعه الآن من التغني بالكراهية والشماتة والمذلة، فلم يسبق قط أن تغنى أحد بكلمات مغناة تقول: " اللي يزعلني حوت يبلعه.. داهية تولعه.. تتلم عليه الناس والدنيا.. وفين يوجعه.. وفي كل طريق تطلع له الحاجة اللي توقعه" ! ويسبح حتى مطرب معروف مثل راغب علامة في تيار الكراهية والشماته حين يغني:" اللي سابنا قفلنا بابنا.. واللي ما بيعرفش قيمتنا خد معاه الشر وراح" ! فهل يمكن لمثل هذه المشاعر السوداء أن تغدو مادة للفن وللتغني بها؟. ذلك يشبه الكتابة عن شخص بالغ البخل، ضن على ابنه بأموال العلاج، وعلى زوجته بنفقات الطعام، ثم فقد ذلك الشخص أمواله فجأة في حريق، وأصبح مطلوبا من الأديب أن يستدر العطف عليه، ويستحيل ذلك، مهما بلغت عبقرية الأديب، لسبب بسيط أن الفن هنا يدافع عن قضية خاسرة، أي البخل، والدفاع عن الكراهية في الفن قضية خاسرة تسقط الابداع. الوجه الآخر للشماتة هو أغنيات المذلة من نوع : " اتعودت انك تهدمني.. وبتدمرني.. وتكسرني". وهما وجهان لعملة واحدة : الروح والعقل المشوه المريض. وما من حل إزاء تلك الأورام الغنائية إلا أن تبرز وتظهر وتعم النماذج التي تتغنى بالحب، وبالحياة، والأمل، وأن نعمل على نشر مراكز الموسيقا في المناطق الشعبية، والرجوع إلى حصص الموسيقا في المدارس، وأكشاك الموسيقا في الحدائق التي تبث روائع الموسيقا العربية، وتوسيع نطاق حضور الفنون في الجامعات، وفتح الأبواب أمام الشبان من الفنانين، وما من سبيل آخر لكسر شوكة ذلك التيار الذي يغترف ما يظنه تجديدا من بئر سوداء.