أحمد الخميسي يكتب: كيث وايتلام .. اختلاق اسرائيل
الصباح العربيعندما عمت الموجات الاستعمارية الانجليزية والفرنسية أواسط وأواخر القرن 19، راجت معها كلمة " الاستعمار"، وهي ترجمة غير صحيحة للكلمة الانجليزية colonialism التي تعني فقط الاحتلال والحكم الأجنبي، أما كلمة الاستعمار فإنها مأخوذة من الفعل عمر، عمرانا، وعمارة، واستعمر الأرض أي عمرها. وقد تكون الترجمة في حينه غير دقيقة، أو أن الأوساط الاستعمارية – وهو الأرجح - هي التي حرصت على ترجمة كلمة الاحتلال على أنها استعمار، لتسبغ على غزواتها صفة التعمير ونشر الحضارة. ولقد قامت إسرائيل أيضا بعملية مشابهة حين ربطت بين وجودها كقاعدة عسكرية استعمارية والأساطير الدينية لتسبغ على نفسها ما يغطي قبح حقيقتها. وفي كتابه " اختلاق إسرائيل القديمة " ترجمة د. سحر الهنيدي يفند الكاتب البريطاني المعروف كيث وايتلام التأريخ الذي قامت وتقوم به " المدرسة التوراتية" التي تعتمد التوراة مصدرا أساسيا للتاريخ الاسرائيلي، وحسب تلك المدرسة فإن مملكة داود القديمة حقيقة تاريخية لا جدال فيها، ويؤكد ذلك الادعاء استمرارية إسرائيل التاريخية، بينما يجزم الكاتب بأننا : " إذا نظرنا من منظور أطول زمنا فان تاريـخ إسـرائـيـل الـقـديم يبدو مثل لحظة قصيرة في التاريخ الفلسطيني الطويل" ! بينما لم تكن إسرائيل سوى : " خيط رفيع في نسيج التاريخ الفلسطيني الغني"، إلا أن مدرسة التأريخ التوراتية تقلب الوضع وتعكسه. وسنجد أنه في الدراسات التوراتية عن تاريخ إسرائيل القديم تجرى الإشارة إلى فلسطين بصفتها منطقة جغرافية من دون الإشارة إلى السكان بصفتهم فلسطينيين! إنهم سكان مجهولون، ولا يبدأ التاريخ عندهم إلا مع بداية التاريخ الاسرائيلي! ويشير كيث وايتلام بذلك الصدد إلى أنه أثناء أبحاثه وعكوفه على الكتاب فوجئ بحقيقة غريبة ألا وهي أن : " تاريخ اسرائيل القديم حكر على كليات الدين واللاهوت لكن ليس الأقسام التي تدرس التاريخ" ! وبصدد توظيف الأساطير الدينية غطاء لدور اسرائيل قاعدة عسكرية أشار مهدي عامل إلى حقيقة غاية في الأهمية في كتابه "مدخل إلى نقض الفكر الطائفي" حين قال إن قيام إسرائيل لم يرتبط بالحركة الاستعمارية فحسب، ولا الصهيونية، وإنما تزامن أيضاً مع نشوء حركات التحرّر الوطني والقومي في المجتمع العربي"، أي أن إسرائيل كانت ضرورة للاستعمار الذي استشعر هبة حركات التحرر، واستعد لها. ولهذا كله لم تكن قصة انشاء دولة اسرائيل قصة لم الشتات اليهودي، بقدر ما كانت قصة تأسيس قاعدة استعمارية تسبغ على نفسها أساطير قومية ودينية تبريرا لوجودها. وهذا يفسر كون الحركة الصهيونية جزءا لا يتجزأ من المنظومة الفكرية للحركة الاستعمارية، مستخدمة أدواتها، ومتماهية معها، ومتأهبة دوما لتقديم خدماتها للاستعمار في أي رقعة من العالم. وعلى أهمية كتاب كيث وايتلام الذي نبهني اليه الصديق سامح الموجي، فقد كتب الكثيرون في ذلك وكان في مقدمتهم كارل ماركس بكتابه: "حول المسألة اليهودية" وطرح فيه ليس أن يتخلص اليهودي من ديانته بل أن تتخلص الدولة من الديانة نحو ترسيخ القيم الديمقراطية، وهي الفكرة ذاتها التي طرحها لينين حين نادى بوجوب ذوبان اليهود داخل المجتمعات التي يعيشون فيها. في كل الأحوال يعد كتاب " اختلاق إسرائيل" الصادر 1999 طلقة أخرى تمزق الأكاذيب وتخلع الأقنعة الدينية عن الكيان الصهيوني.