أحمد الخميسي يكتب: ستوديو الحجاز.. بطل من زماننا
الصباح العربيهناك من الروايات ما يدعك مندهشا طويلا من المتعة الفنية أو مما تثيره أو تقدمه من قضايا وبشر وتجارب، لكن ثمت روايات قليلة تظل تلاحقك مثل ظل غامق وتسألك : وماذا بعد؟ ما العمل؟، فتثقل على القلب والروح. أتحدث هنا عن رواية د. محمد ابراهيم طه " ستوديو الحجاز" التي صدرت مؤخرا، وفيها يستعرض الكاتب مصير المثقف الذي آمن بالاشتراكية، وفجعه فيها انهيار المعسكر الاشتراكي، وتفكك وانحسار الأحزاب اليسارية، وما أعقبه من ضياع واسع كالبحر ابتلع كل من آمن واعتقد في ذلك الحلم. بطلها هو " طه " الذي انفسحت الدنيا أمامه بعد قليل من الأزمة، فإذا به متردد إزاء كل شيء، هو ضائع حتى في علاقاته العاطفية ما بين شجون، و إيمي، وداليا، وهو ضائع أيضا فكريا ما بين اليسار والتيار الديني، انفصل عن قريته كفر الشرفاء، ولم يجد نفسه في المدينة، ويصفه الروائي بقوله إن : " التناقضات بداخله ستعتمل حتى يصبح ما لا يريده هو بالضبط ما يريده "! إنه مستنير لكنه قد يعطي صوته في الانتخابات للتيار الإسلامي، وكان شيوعيا داخل منظمة فلما حل التنظيم نفسه لم يحرك ساكنا، وهو متردد يفقد غرامه الأول" شجون" بسبب ذلك، وتقوده امرأة أخرى إلى القبول بأن تنشأ ابنته تحت جناح رجل آخر. إنها أقسى صورة للمثقف العاجز الذي يشير بوضوح قاطع إلى كل مساوئ عهد مبارك من خصخصة وغيرها، لكنه لا يفعل سوى ادراك ما حوله، من دون القدرة على التغيير، حكمت مصيره في أغلب الأحوال المصادفة، وليس الارادة. وفي الخلفية يقدم لنا محمد إبراهيم طه نماذج كسرتها الهزيمة التاريخية من عمال وطلاب ومثقفين كانوا رفاقا ذات يوم، ثم حطمهم العجز في الزمن. في المقابل هناك شخصية " شاكر" الشيوعي الثابت على مبادئه، المتسق مع نفسه، لكنه اتساق بلا ثمرة، اتساق لا يخرج بفكرة أو عمل مبدع يبدل الواقع، بينما تفوز شخصية ثالثة بكل شيء، هو " الهن"، الانتهازي القواد الذي يثق بأن لكل شيء سعره، وثمنه، إنه المنتصر الوحيد في زمن الهزيمة. وبشخصية المثقف المعزول العاجز الغارق في الأحلام والأوهام تعيد الرواية إلى الذهن رواية ليرمنتوف " بطل من زماننا" التي كتبها عام 1838وقدم فيها صورة المثقف الضائع، بطل ذلك الزمان" بتشورين"، الذي كان مثقفا وذكيا لكنه يحيا حياة باهتة، ولا يجد لنفسه هدفا، وقد أشار ليرمنتوف في المقدمة إلى أن :" بطل هذا الزمان ليس صورة رجل واحد، إنه صورة تضم معايب جيل بأكمله"، و يكتب في الرواية: " لقد أصبحنا عاجزين عن أن نقدم أية تضحية كبيرة في سبيل خير الانسانية ولا حتى في سبيل سعادتنا ذاتها، وما ننفك ننتقل من شك إلى شك، كما كان أسلافنا ينتقلون من وهم إلى وهم "، وهو ما ينطبق بالضبط على طه بطل " ستوديو الحجاز"، الذي لم يستطع حتى الدفاع عن سعادته الشخصية. يقدم لنا محمد إبراهيم طه بطلا من زمننا، بعذوبة الروائي المتمكن، حين يراوح في لحظة واحدة ما بين إشراقة علاقة الحب مع "شجون" والمصير المؤسف لتلك العلاقة، ويتنقل ما بين حياة طه الشخصية والنماذج الانسانية التي كسرها الواقع، نماذج لم تكن بالقوة بحيث تصمد مرفوعة الرأس في وجهه العاصفة. تنتهي من قراءة "ستوديو الحجاز" لكنها لا تنتهي منك، تظل تتبعك مثل ظل رمادي، تثقل على القلب ولاتني تسألك : وماذا بعد؟ ما العمل؟