أحمد الخميسي يكتب: لماذا ننام؟ بين الوطنية والعلم


عندما نشب حريق القاهرة في يناير 1952 ألجمت ألسنة اللهب المصريين، وخرج الشاعر اسماعيل الحبروك بقصيدة بدأها بقوله : " سأنام حتى لا أرى وطني يباع ويشترى"! وفي أغسطس من نفس العام ظهر كتاب أحمد بهاء الدين " فاروق ملكا" وقد تضمن قصيدة الحبروك في إشارة إلى جسامة الحدث وردود الأفعال. وكانت تلك القصيدة أول وآخر تفسير سياسي لأسباب النوم! بينما يقدم لنا العالم البريطاني" ماثيو ووكر" أستاذ علم النفس والأعصاب بجامعة هارفارد التفسير العلمي لظاهرة لنوم في كتابه الشيق " لماذا ننام؟" ترجمة الحارث النبهان. وبداية يؤكد العالم البريطاني أن النوم ظاهرة تشمل كل الكائنات الحية، وليس البشر وحدهم كما نظن، وربما لا يخطر على بالنا أنه حتى الحشرات تنام، أو تمر بحالة شبيهة بالنوم، بما في ذلك الأسماك والعقارب والفئران بل وحتى الذباب! النوم إذن ظاهرة عامة، وحسب معطيات العلم الأخيرة فإن النوم أقل من ست ساعات يوميا قد يؤدي لإصابة الانسان بالسرطان، والزهايمر، واضطراب مستويات السكر، بل والاكتئاب والقلق، وباختصار فإن نوما أقل يعني عمرا أقصر. لكن لماذا ننام؟ وهل هناك إجابة عن ذلك السؤال؟ يقول العالم البريطاني إن النوم ظل أحد أكبر الألغاز البيولوجية، حتى أن عددا من أكبر العلماء فشلوا في معرفة لماذا ننام؟ والتوصل الى شيفرة النوم وأسراره. لكن العلم الحديث وضع يده على بعض من تلك الأسرار، وفي مقدمتها أن النوم يمر بمرحلتين، مرحلة أولى تتحرك فيها العين بسرعة أثناء النوم، وهي مرحلة وثيقة الصلة بالأحلام، ثم تحل المرحلة الثانية وهي النوم العميق وفيه تكف العين عن الحركة السريعة. ويشير العالم البريطاني إلى جانب شيق قائلا إن الانسان قد يرى في المرحلة الأولى من منامه أنه مثلا يضرب شخصا آخر، وبالفعل يهم في نومه بالتحرك لضرب ذلك الشخص، لكن لخطورة الحركة خلال النوم، فإن التطور فرض حظرا على النشاط العضلي للنائم، وعلى الأوامر الحركية، وبذلك فإن الدماغ يشل الجسد لكي يتمكن العقل من الاستمرار آمنا في الأحلام. لكن مازال السؤال قائما : لماذا ننام؟ يجيب العالم البريطاني على ذلك بأن ثمة حاجة عقلية معقدة للنوم بمراحله المختلفة، هذا لأن العقل في ساعات النوم يقوم بتحديث شبكات الذاكرة استنادا إلى الحوادث التي مرت به في اليوم السابق، كما أن الموجات الدماغية بعيدة المدى تقوم خلال النوم العميق بنقل معلومات التجارب التي مر بها النائم من مواقع التخزين المؤقت - وهي مواقع سريعة التلف - إلى مواقع تخزين تتصف بكونها أكثر دواما، وبمعنى ما فإن الموجات البطيئة توفر حالة من " التفكير" الداخلي التي تعزز عملية نقل المعلومات وتنقية الذاكرة، وهكذا فإن هذا التناغم الكهربائي المدهش الذي يسري في الدماغ مئات المرات كل ليلة هو الذي يجعلك تفقد الاحساس بالعالم الخارجي، وهو الذي يمنع انتقال الاشارات الحسية ( الصوت والضوء واللمس والشم) إلى الوصول لأعلى الدماغ. وإذا كنا قد بدأنا المقال بقصيدة اسماعيل الحبروك، فلتكن خاتمته أيضا من الشعر، وبذلك الصدد يقول الكاتب عن أهمية النوم: " والمفارقة هي أن أكثر اكتشافات القرن العشرين الجديدة في ما يخص النوم قد ورد باختصار في الفصل الثاني ، المشهد الثاني، من مسرحية شكسبير " ماكبث " حيث يقول إن النوم هو العنصر المغذي الأكبر في مدينة الحياة". ناموا إذن .. واشبعوا نوما وتمتعوا بالأحلام !