مصر .. تجربة رائدة في مواجهة ظاهرة ”التنمر” واستراتيجيات متنوعة لمكافحتها


- التنمر ظاهرة يرفضها المجتمع ويجرمها القانون ويحرمها الشرع.
- اهتمام كبير بمكافحة التنمر في المدارس والجامعات وبيئات العمل ووسائل التواصل الاجتماعي.
- مؤسسات الدولة تطلق العديد من المبادرات والتشريعات التي تهدف للحد من الظاهرة وحماية الضحايا.
- مكافحة التنمر تتطلب مسؤولية جماعية بين الدولة والمجتمع والأسرة والمدرسة.
- الخبراء والمتخصصون يحذرون من خطورة ظاهرة التنمر على أفراد المجتمع التي ربما تصل إلى درجة الانتحار.
حرصت الدولة المصرية ، منذ تولى السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي ، مقاليد الحكم في البلاد على مكافحة ظاهرة "التنمر" من خلال مسارات متعددة ومبادرات تستهدف الوعي الجمعي للمواطنين بإدراك خطورة هذه الظاهرة الاجتماعية التي تؤثر على الأفراد نفسيا وسلوكيا ثم بنية المجتمع.
وفي أكثر من مناسبة ، أكد الرئيس السيسي ضرورة التصدي لهذه الظاهرة، مشددا على أهمية ترسيخ قيم الاحترام وقبول الآخر ، ومن ثم شهدت مصر في السنوات الأخيرة اهتماما متزايدا بمكافحة التنمر في مختلف أنحاء المجتمع في المدارس والجامعات أو بيئات العمل أو على وسائل التواصل الاجتماعي، كما أطلقت مؤسسات الدولة عددا من المبادرات وسنت التشريعات التي تهدف إلى الحد من هذه الظاهرة وحماية الضحايا؛ وذلك ادراكا منها بخطورة التنمر الذي يؤثر سلبيا على المجتمع خاصة بين الأطفال والشباب.
وكان المثال الأبرز لمواجهة هذه الظاهرة في نوفمبر عام 2019 ، عندما وجه منتدى شباب العالم الدعوة لشاب من جنوب السودان يدعى "جون أجاك" تعرض لواقعة تنمر، انتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي حينها، في مسعى للتخفيف عنه بعد مواجهته لعنصرية بغيضة، وظهر الطالب الجنوب سوداني "جون"، صاحب واقعة التنمر، بجوار الرئيس السيسي، في افتتاح فعاليات مسرح شباب العالم بشرم الشيخ.
وتتطلب مكافحة التنمر مسؤولية جماعية تشمل تعاون الدولة والمجتمع والأسرة والمدرسة، لمكافحتها. ومع استمرار حملات التوعية وتطبيق القوانين بحزم، يمكن مكافحة هذه الظاهرة وخلق بيئة أكثر أمانا واحتراما للجميع، مما يسهم في بناء مجتمع متماسك قائم على القيم الإنسانية.
(خطوات ملموسة وإصلاحات جادة)
ودعمت الدولة المصرية ، حفاظا على بنية المجتمع وتماسكه، عديدا من المبادرات التوعوية، ولم يقتصر الأمر على التوعية فقط، بل امتد إلى تعديل التشريعات لتغليظ العقوبات على المتنمرين، بهدف خلق بيئة أكثر أمانا واحتراما لجميع المواطنين.
وفي هذا الصدد، أصدرت الحكومة عدة قوانين للحد من التنمر، مثل تغليظ العقوبات على المتنمرين بموجب تعديلات قانون العقوبات، كما أطلقت وزارة التربية والتعليم حملات توعية في المدارس لتعزيز ثقافة الاحترام المتبادل بين الطلاب، بالإضافة إلى تخصيص برامج نفسية لدعم المتضررين، كذلك لعبت مؤسسات المجتمع المدني دورا بارزا في التوعية بمخاطر التنمر من خلال حملات إعلامية ومبادرات مجتمعية.
ولم يكتف الأمر بالتشريع أو التوعية فقط ، إنما امتدت المبادرات والخطوات التي تم اتخاذها لمكافحة التنمر إلى إطلاق المجلس القومي للطفولة والأمومة بتخصيص رقم للإبلاغ عن التنمر، ويمكن للشخص وولي الأمر الذي تعرض ابنه للتنمر الاتصال بخط نجدة الطفل لطلب المساعدة.
وأعلن المجلس أيضا إطلاقه لتطبيق إلكتروني "نبتة مصر"، والذي يتضمن خدمات متعددة تسهيلًا على المواطنين في التواصل والإبلاغ عن حالات تعرض الأطفال للخطر، وأيضًا للتيسير على الأهالي في الحصول على الخدمات المقدمة من قبل المجلس والإدارة العامة لنجدة الطفل؛ وذلك لفتح قنوات اتصال متعددة مباشرة مع المواطنين والأطفال .
كما أطلق المجلس القومي للطفولة والأمومة بالتعاون مع منظمة "اليونيسيف" وبدعم من الاتحاد الأوروبي حملة قومية بعنوان "أنا ضد التنمر" وحملة حول التنمر الالكتروني.
الجهود التي بذلتها الدولة من أجل مكافحة ظاهرة التنمر والقضاء عليها، جاءت انطلاقا من إدراك من خطورة تلك الظاهرة للحفاظ على مجتمع متماسك وسوي ، وفقا لما أجمع عليه خبراء ومتخصصون من أن مكافحة ظاهرة التنمر تحظى باهتمام كبير من القيادة السياسية، إدراكا لتأثيرها السلبي على المجتمع، خاصة بين الشباب والأطفال.
وحذر الخبراء والمتخصصون ، في أحاديث منفصلة لوكالة أنباء الشرق الأوسط ، من خطورة ظاهرة التنمر على أفراد المجتمع التي ربما تصل إلى درجة الانتحار ، واصفين التنمر بالسلوك غير السوي وغير الأخلاقي ، ومطالبين بالعودة إلى القيم الأصيلة في التربية حتى يتم تنشئة أجيال سوية تساعد في النهوض بالمجتمع لا تكون عبئا عليه.
وقالت الدكتور هالة منصور أستاذ علم الاجتماع بجامعة بنها إن مسمى "التنمر" يأتي اشتقاقا من كلمة "نمر"، والنمر كما هو معروف لا يهاجم الفريسة بشكل مباشر ، إنما يبحث عن نقاط الضعف بها ثم ينقض عليها فجأة ، لافتة إلى أن "المتنمر" يبدأ في التركيز على نقاط الضعف لدى الأشخاص ثم يبدأ بالضغط عليها.
وأضافت :إن المتنمر شخص غير سوي يضخم نقاط الضعف لدى بعض الناس من أجل استغلالها والانقضاض عليها ، وإنه ربما يمارس سلوكه العدواني تجاه عيب خلقي في ضحيته أو هيئة قد تراها الضحية أنها غير مناسبة ، فيبدأ في محاولة القاء الضوء عليها أو استغلالها في سلوك غير إنساني ومنبوذ.
وعن الأسباب التي تدفع بعض الأشخاص إلى هذا السلوك غير الحميد، قالت الدكتورة هالة منصور إن من يفعل ذلك يفتقد إلى منطق الأخلاق ثم إن هذا المتنمر نفسه لديه نقاط ضعف يحاول إخفاءها بتركيزه على نقاط ضعف الآخرين ، واصفة المتنمر بأنه شخص "معقد" لديه مشكله نفسية يفتقد إلى الأخلاق والتربية القويمة.
وأوضحت منصور أن تأثير التنمر على الضحايا تبدأ بإصابتهم بأمراض نفسية مختلفة تصل إلى حد اليأس الذي يؤدي في بعض الأحيان إلى الانتحار والتخلص من الحياة إذا كانت البنية النفسية للضحية ضعيفة أو مفتقدا إلى الثقة ، ثم أن شيوع مثل هذا السلوك البغيض يؤدي إلى حالة من تعكير الصفو المجتمعي وردود الفعل غير المحسوسة في بعض الأحيان.
وفي إطار مواجهة مؤسسات الدولة لظاهرة التنمر والتحذير من تداعياتها ، أطلقت "الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية"، عبر القنوات الفضائية المختلفة ، حملة إعلامية تحت اسم "تجمل بالأخلاق"، للتوعية بمعاناة البعض من مشاكل نفسية بسبب التنمر.
كما أنه في إطار مبادرة رئيس الجمهورية للتنمية البشرية "بداية جديدة لبناء الإنسان"، تم تنظيم عدة قوافل تثقيفية وتوعوية بعدة محافظات ولعدة فئات عمرية حول ماهية ظاهرة التنمر وتأثيراته المختلفة على الأفراد وكيفية التعامل والتصدي للمشكلة وحلها.
وأطلقت وزارة التضامن الاجتماعي "مبادرة وعي"، بهدف تكوين قيم واتجاهات وسلوكيات مجتمعية إيجابية تؤدى إلى تحسين جودة الحياة للمرأة ولجميع أفراد الأسرة والخروج من دائرة الفقر ومفهومه وهو ليس ماديا فقط.
" أنواع التنمر"
وحول تحليل خبراء الطب النفسي لظاهرة "التنمر" وأسبابها وتداعياتها على المجتمع وكيفية مواجهتها ، يقول الدكتور جمال فرويز استشاري الطب النفسي إن هناك عدة أنواع من التنمر ، فهناك تنمر للأطفال وآخر للكبار ، وهناك تنمر يقتصر على الحركات مثل إغماض عين أو إيماءة ، وآخر يتخطى تعابير الوجه إلى الأمور اللفظية والمادية.
ووصف فرويز الشخص المتنمر بأنه مضطرب نفسيا ومتطرف ولديه مشاكل نفسية تجعله يتنمر على الأخرين ، معتبرا أن المتنمر إذا كان طفلا فإنه يعاني حرمانا عاطفيا يجعله يستعيض عنه بالتنمر على الآخرين ، أما الكبار فنتيجة ضغوط واقعة عليهم.
وحول تأثير التنمر على الأشخاص ، يقول استشاري الطب النفسي إن ردة فعل الضحية الذي يتعرض للتنمر يختلف من شخص لآخر ما بين الانفعال الشديد أو الانطواء أو إضطرابات في النوم أو الطعام أو الشراب واضطرابات أيضا في الحالة المزاجية وتصل إلى حد العدوانية والعنف.
وعن كيفية مواجهة التنمر في المجتمع ، أكد الدكتور جمال فرويز أهمية دور التعليم والمدرسة والوعي في مكافحة هذه الظاهرة ، ومن هنا يأتي أهمية دور الأسرة حتى يتم تنشئة جيل ناضج ، معتبرا أن الأم هي مظلة الأسرة بينما يمثل الأب مصدر الأمان والثقة بالنفس للأبناء.
وفي إطار تصدي وزارة التربية والتعليم لظاهرة "التنمر"، شهدت المدارس تنفيذ خطة للقضاء على ظاهرة التنمر في المجتمع بصفة عامة، وفي المدارس بصفة خاصة، استنادًا إلى ما ورد في عدد من التشريعات (قانون العقوبات - قانون الطفل - قانون حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة) من تجريم أفعال الإساءة إلى الأشخاص، وانتهاك الخصوصية، والمساس باعتبار وشرف الأفراد في ظل البيئة الرقمية.
والتزمت المدارس، بتخصيص كلمة في الإذاعة المدرسية للحديث عن التنمر وخطورته على المجتمع، بوصفه جريمة جنائية معاقبًا عليها بعقوبات مشددة ، على أن يتم تكرار ذلك بشكل دوري في الإذاعة المدرسية وأثناء إقامة الفعاليات والأنشطة التربوية.
وكلفت وزارة التربية والتعليم، الأخصائيين الاجتماعيين والنفسيين بعقد ندوات توعوية لأولياء الأمور للتوعية بمخاطر التنمر ، كما كلفت الوزارة أيضا ، إدارات العلاقات العامة والإعلام بالتوعية من خلال صفحات التواصل الاجتماعي بمخاطر التنمر وآثاره السلبية على المجتمع بشكل عام، وعلى الأبناء بشكل خاص، مع تأكيد توصيفه جريمة جنائية معاقب عليها بعقوبات مشددة.
(التنمر وحكم الشرع )
وطرحت (أ.ش.أ) ظاهرة "التنمر" على رجال الدين لبيان حكم الشرع الحنيف فيمن يقوم بهذا الفعل الضار بالفرد والمجتمع ، فكان الجواب على لسان الدكتور محمد مختار جمعة وزير الأوقاف السابق الذي أكد أن الإسلام نهى عن كل ما يجرح المشاعر أو يؤذي أحدا من الخلق قولا أو فعلا تصريحا أو تلويحا، حيث يقول الحق سبحانه :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.
وأضاف الدكتور جمعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "المسلم من سلم الناس من لسانه ويده" ، ولما ذكروا له صلى الله عليه وسلم امرأة صوامة قوامة إلا أنها تؤذي جيرانها فقال صلى الله عليه وسلم: " هي في النار ".
وتابع قائلا:" المتنمر على أحد من خلق الله بعيب خلقه الله عليه فإنه متجاوز ليس في حق المتنمر منه فحسب ، بل إنه متجاوز في حق الخالق جل وعلا ، وكذاك من تنمر من إنسان بسبب لونه أو فقره أو أي علة فيه ، فذلك كله مناف للدين والوطنية وكل القيم الأخلاقية والإنسانية ، والأولى بمن مَنَّ الله عليه بواسع فضله خَلْقا أو مالا أو صحة أو جاها أن يحمد الله وأن يسخر هذه النعم في طاعة الله من خلال خدمة الخلق وإعانتهم وحسن معاملتهم".
ويتفق معه في الرأي الدكتور مصطفى شلبي ، من علماء الأزهر الشريف ، الذي يقول إن التنمر إنما هو سلوك نهت عنه شريعة الإسلام ، فالإسلام من أول وهلة كان ضد هذا السلوك العدواني، فهذا سلوك عدواني لا يرضاه الإسلام، ولا ترضاه البشرية، بل هو سلوك ضد البشرية.
وأضاف الدكتور شلبي أن التنمر قائم على السخرية من الآخرين وهو سلوك يقوم على إيذاء الناس، سواء معنويا او لفظيا ، وهذا يسبب أمراضا نفسية، وقد يؤثر في شخصية الأفراد ، مشيرا إلى أن الدين الإسلامي قائم على الخير للناس جميعا، وأن الله سبحانه وتعالى نهى عن هذا السلوك، وعن كل سلوك فيه انتقاص وسخرية بحق الآخرين.
وأوضح أن الآية الكريمة "يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن" بسورة الحجرات، حددت كل هذه الأنواع بصورها، سواء كان سخرية أو لمز أو همز ، واللمز،كما نعلم بالقول والهمز بالفعل، وهذا محرم ومجرم في شريعة الإسلام.
وشدد الدكتور مصطفى شلبي على أن منهج الإسلام منهج سمح قائم على السماحة وقائم على المشاركة بين جميع الفئات في المجتمع، وأن الجميع إخوة متحابون، وضرب الرسول صلى الله عليه وسلم المثل الأروع بالصحابة ، عندما كان فيهم الإخاء بين المهاجرين والأنصار.