د. أحمد الخميسي يكتب: أنطون تشيخوف .. بطولة الأطباء
الأطباء أصحاب البلاطي البيضاء هم من يقف الآن في مواجهة الوباء. خط الدفاع الأول عن الحياة، خط الدفاع الأخير. لكننا لم نلتفت يوما بالاهتمام الكافي إلى أولئك الأبطال، ولم نعطهم حقهم من التقدير. في سبتمبر 1891 كتب فلاديمير تيخونوف رئيس تحرير مجلة" سيفر" الروسية ( الشمال) إلى أنطون تشيخوف يسأله قصة للنشر في المجلة، وأجابه تشيخوف بأنه يكاد أن ينتهي الآن من قصة وسوف يرسلها إلى المجلة، وناشده تيخونوف أن يذكر له اسم القصة لكي يعلن للقراء عن نشرها قريبا. أجابه تشيخوف في 12 سبتمبر بأن القصة مازالت بلا اسم وأن اختيار الاسم الآن:" صعب صعوبة تحديد لون دجاجة لم تخرج من البيضة بعد". وفى تشيخوف بوعده وبعث بالقصة ونشرت لأول مرة في نوفمبر 1891. يقدم تشيخوف في قصته بطله الطبيب" أوسيب ضيموف" الذي تزوج من أولجا إيفانوفنا بعد أن تعرف إليها في المستشفى وزارها في بيتها عدة مرات. وبينما كان الطبيب يتجه من الصباح إلى المستشفى ويظل يعمل به حتى وقت متأخر من الليل، كانت أولجا زوجته، الشابة الجميلة، تصحو في الحادية عشرة صباحا، تعزف على البيانو قليلا، وترسم قليلا، ثم تتجه إلى الخياطة أو إلى أتيليه أحد الرسامين، أو إلى إحدى صديقاتها حيث تتبادل معها أخبار النجوم والفن، وعلاوة على ذلك كانت تعقد في بيتها كل أربعاء صالون أو ملتقى لأصدقائها الفنانين، وفي شهور الصيف ترتاح في البيت الريفي بين الغابات. وكان " ضيموف" يشعر بنفسه غريبا في ذلك الوسط الذي كانت تعيش فيه زوجته، فقد كان معظم معارفها من الفنانين المرموقين، أو الشعراء الواعدين، أو الموسيقيين اللامعين، وكانت زوجته تكتفي حين يدخل إلى البيت مرهقا من العمل بأن تشير إليه محدثة ضيوفها: " انظروا إليه؟ أليس صحيحا أن فيه شيئا ما؟ " كانت تقول ذلك كأنما تريد أن توضح لهم لماذا تزوجت هذا الرجل البسيط العادي للغاية الذي ليس به أي شيء مميز. في تلك الأثناء يقع الرسام" ريبوفسكي" في غرام أولجا فتستسلم له. وذات مساء يمرض" ضيموف" وتستدعي أولجا زملاءه الأطباء الذين يخبرونها بأنه مريض بشدة وحالته خطرة لأنه : " شفط منذ يومين بالأنبوبة أغشية الدفتيريا من طفل مريض في المستشفى". وعندما يبدو واضحا أن ضيموف يحتضر يقول أحد الأطباء لأولجا زوجته : " يالها من خسارة للعلم. لقد كان انسانا عظيما! أي موهبة! عاش في خدمة العلم ومات في خدمته". فجأة تتذكر أولجا حياتها مع " ضيموف" وتواضعه وانكاره لذاته وعمله المتصل، فجأة تكتشف بوضوح أن زوجها الذي طالما بدا لها كأنه لا يتميز بشيء بين الفنانين والنجوم هو علم من أعلام الطب، وموهبة علمية ضخمة، ويحل عليها الذهول من فكرة أنها كانت طول الوقت تبحث عن العظماء من دون أن تنتبه إلى عظمة الذي عاشت معه. كان بجوارها ولم تشعر به. تهرول أولجا إلى حجرة ضيموف باكية لتعلن له أنها ستصحح كل شيء، لكنها تجد يديه باردتين وتدرك أنها قد تأخرت. في قصته الجميلة تلك كان تشيخوف يكتب عن كل الأطباء، وكل البطولات التي تعيش معنا ولا نشعر بها إلا بعد فوات الأوان. من اللافت أن القصة في المسوادات الأولى كان اسمها" انسان عظيم" والمقصود الطبيب ضيموف مما يوضح نظرة الكاتب إلى الأطباء ودورهم، لكن تشيخوف الذي كان يتفادى المباشرة عاد قبل نشر القصة بأسبوعين فطلب من المجلة تعديل الاسم إلى "اللعوب". أقرأ القصة وأرى بطولة الأطباء المصريين والممرضات الذين يواجهون وباء كورونا في مصر، وأرى بطولات الأطباء في كل ركن من العالم. يحتاج أصحاب البلاطي البيضاء إلى التقدير والاهتمام، فلماذا لا يقدم التلفزيون برنامجا يوميا عن عمل أولئك الأطباء والممرضات داخل المستشفيات؟ لماذا لم يفكر المطرب"رقم واحد" أو رقم اثنين، في تقديم أغنية عنهم؟ لماذا لا تفرد الصحف اليومية بابا لما يقومون به وتضع صورهم وأسماءهم في صفحاتها الأولى؟ لماذا لا تتولى وزارة الثقافة النائمة في العسل مهمة إصدار كتيب لتسجيل ببطولات أولئك الأطباء في مواقع عملهم وتوزعه بالمجان في كل مكان؟ لماذا لا يتم رفع أجورهم وتوفير ظروف أفضل لعملهم؟ أصحاب البلاطي البيضاء جديرون بالتكريم وهم أحياء بيننا، وعلينا أن نقوم بذلك.
د. أحمد الخميسي. قاص وكاتب صحفي مصري