ياسر رزق يكتب: أولويـات ما بعد الأزمــة
لا بأس الآن من استخلاص دروس مما مضى، لعلها تخفف وطأة
ما هو مقبل فى الأزمة، أو تنير دروباً قد نسلكها فى المستقبل
نحن فى قلب عاصفة.
لا نعرف ما إذا كنا فى بدايتها، أم فى نهاية بدايتها، أم فى منتصفها، أم فى بداية نهايتها..!
لا أحد يعلم على وجه الدقة متى تزول، حتى أولئك الذين يهوون التنبؤ بالمستقبل على غير دراية.
تراهم إذا تصادف وصدقت تنبؤاتهم، صعدوا درجات وعلوا مراتب. وإذا خيبت الأحداث توقعاتهم، اعتمدوا على ذاكرة الناس ذاتية المسح..!
فقط.. ندعو الله ألا تكون عاصفة الكورونا موسمية، تدور دائرتها وتعود كلما حسبنا أنها تلاشت، فتتجدد كل عامين أو بضعة أعوام..!
< < <
لا أحب وصف أننا فى معركة.
هذا الوصف هو غطاء لسلوك جلد جماعى للذات، وحساب مبكر ومجمع للبشر، قبل يوم الحساب.
قطعا لسنا فى معركة مع الله وجنوده. الخالق قادر -لو أراد- أن يزيل الوجود من الوجود، وقادر -لو شاء- أن يسلط جنده على كل الناس أو بعضهم ويأتى بخلق جديد.
الله الذى خلق الأوبئة والأمراض، هو الذى خلق الأمصال والأدوية، وهو الذى خلق عقل الإنسان الذى يكتشف الدواء للداء.
لو كنا فى معركة مع فيروس الكورونا، لكانت الهزيمة هى المصير.
فكيف نحارب عدوا لا نراه، فى ميدان لم نختره، وفى توقيت لم نحدده، وننتظر أن ننتصر؟!
ربما كانت جائحة «الكورونا» إشارة عند منحنى لتعديل مسار جماعات وأفراد.
العالم ينفق سنويا 1.8 تريليون دولار على التسليح أى أن نصيب الفرد من الانفاق على السلاح يبلغ 257 دولاراً كل عام.
برغم ذلك لم تستطع أقوى معدات السلاح أن تحمى الناس أو أن تحمى نفسها من الفيروس المستجد غير المرئى بالعين المجردة ولا بالرادارات، وإنما بالميكروسكوبات فى المعامل الطبية!
حاملة الطائرات الأمريكية «ثيودور روزڤلت»، سقط قرابة 15٪ من طاقمها مرضى بڤيروس كورونا، ومن بعدها أصيب أكثر من ثلث طاقم حاملة الطائرات الفرنسية «شارل ديجول» بالڤيروس، وتعطلت الحاملتان بنسبة كبيرة عن العمل بسبب هذا المخلوق متناهى الصغر..!
< < <
أزمة «كورونا»، تختلف عن سابقاتها فى تاريخنا المعاصر، سواء الأزمات والكوارث الطبيعية، أو تلك من صنع الإنسان، على الأقل فى الخسائر البشرية الحالية أو المنتظرة، أو المتوقعة وفقا لأسوأ السيناريوهات.
على سبيل المثال.. حصدت الانفلونزا الاسبانية (1918- 1919) أرواح نحو 50 مليون إنسان وفق أقل التقديرات، حين كان عدد سكان العالم لا يتجاوز 1.9 مليار نسمة.
وأزهقت الحرب العالمية الثانية (1939-1945) أرواح قرابة 50 مليون إنسان أيضا، حين كان تعداد العالم يبلغ 2.5 مليار نسمة فحسب.
وجه الاختلاف أن العالم فى مجمله يعيش أزمة «الكورونا» بكل قاراته وبلدانه على أطراف أصابعه، لأن الأجيال الحالية لم تعاصر الأزمات الطبيعية والبشرية السابقة، فليس من يقرأ كمن يعايش..!
العالم يتابع الآن وعلى الهواء مباشرة تأثيرات تغلغل الجائحة بمختلف أبعادها على الأقاليم والدول، مما يجعل ما يحدث فى إقليم فاعل أو دولة كبرى له تأثير «الدومينو» على اقتصادات باقى الدول، على نحو لحظى ومتسارع وهائل.
ولن يكون مدعاة للاستغراب بمرور الوقت أن تنتقل معدلات التدهور فى الخسائر المالية باقتصادات الدول والتجمعات الإقليمية من المتوالية العددية إلى المتوالية الهندسية، كلما استشرت حالة الذعر فى الأسواق، وانتقلت عدواها عبر أجهزة الاتصال والتواصل فى الفضاء الالكترونى، وكلما خيمت حالة «اللا تيقن» أكثر وأكثر على أروقة صنع القرار الاقتصادى والسياسى.
سبب آخر يزيد من وطأة الاحساس بهذه الأزمة الراهنة هو تنامى شعور الناس وسط حظر التجوال والعزل الجبرى فى المنازل، بـ»رهاب الأماكن المغلقة» أو ما يعرف بـ»كلوسترو فوبيا». برغم أن أجيال الشباب، بل والبعض من كبار السن، يعيشون من قبل نشوء الأزمات، فى أماكن مغلقة هى ذواتهم، بينما هم يحسبون أنفسهم وسط العالم الافتراضى فى حالة انفتاح وتواصل اجتماعى مع الآخرين..!
< < <
القدر كان رحيما بنا نحن المصريين، وببلدنا مصر.
نتخيل ماذا لو جاءت هذه الجائحة منذ 9 سنوات مضت، فى قلب ثورة 25 يناير 2011 والتسونامى المصاحب لها؟!
ماذا لو جاءت أثناء حكم الإخوان، وما أدراك ما حكم المرشد؟!
ماذا لو جاءت فى أعقاب ثورة 30 يونيو 2013، حينما كانت الدولة فى حالة ترنح فوق مفاصل سائبة؟!
ماذا لو جاءت أثناء «العسرة» الاقتصادية قبيل إجراءات الاصلاح وتحرير سعر الصرف؟!
ربما كان لتلك الإصلاحات ومعها تدشين المشروعات العملاقة والكبرى ومشروعات بناء المدن الجديدة ومد شبكة الطرق والتوسع فى البنية الأساسية، الأثر الفعال فى توقع المؤسسات الدولية للاقتصاد المصرى بأن يكون هو الوحيد الذى يسجل معدل نمو موجبا فى المنطقة وسط معدلات تراجع لاقتصادات دول الشرق الأوسط.
كأننا كنا ننجز، وفى نفس الوقت نتحصن لما هو غير معلوم من تصاريف القدر.
< < <
سواء كنا فى قلب عاصفة نحتمى من رياحها، أو كنا على طريق نتلمس خطانا وسط المطبات والعراقيل، فلا بأس من استخلاص دروس مما مضى، لعلها تخفف وطأة ما هو مقبل فى الأزمة، أو تنير دروب ما بعد الأزمة..!
حتى لو قيل أن الوقت مبكر لاستخلاص عبر من عاصفة لم تتبدد ومن طريق لم يبلغ نهايته، فالأفضل أن نتخيل متطلبات المستقبل على ضوء ما مررنا به وعشناه، بدلا من أن يأتى الغد بأشياء كنا نستطيع أن نتهيأ لها أو أن ندرأها.
فى تقديرى المتواضع، أنه مع انشغال أجهزة الدولة سواء منفردة أو فى إطار جمعى، بمجريات الأمور ومواكبة تأثيراتها المنتظرة وآثارها المتوقعة على مختلف نواحى الحياة وإدارة شئون البلاد، لابد من وجود خلية عمل أو كيان ما، يستخلص الدروس ويضع تصورات لتعديل بعض الاستراتيجيات واستحداث بدائل، تناسب الأحوال المستجدة فى اليوم التالى لزوال الأزمة.
وأحسب هذا الأمر إما فى الأذهان، أو دخل الخدمة فعليا، وأظننى على صواب بالنظر إلى التجارب الماضية على امتداد 6 سنوات مضت فى جمهورية السيسى.
< < <
ثمة دروس - فى رأيى- يمكن استخلاصها من آثار ڤيروس «كورونا» بأبعادها المختلفة على مصر تحديدا.
أهمها كما أظن، هو مراجعة السياسة التى كانت مقترحة للحد من دور الجيش فى مشروعات التنمية، وإعادة النظر فى هذه السياسة، بعدما ثبت أنه أكثر أدوات الدولة فعالية، فى سرعة إنجاز ما لا يستطيع غيره من جهات انجازه بنفس الكفاءة والتكلفة الرشيدة، وأيضا فى سرعة التلبية فى مواجهة الطوارئ من أزمات وكوارث، وبعدما ثبت أيضا أنه لا غنى عن الدور المتضافر للقوات المسلحة وأجهزتها فى الحماية والبناء مع الدفاع والردع.
فى ذات السياق.. لابد من عدم الانسياق إلى ضجيج جماعات أصحاب المصالح الذين دأبوا على التصايح مطالبين بقصقصة أجنحة الدولة، وقصر دورها على التنظيم دون التخطيط والإدارة والملكية فى بعض مجالات الاقتصاد، برغم أننا شاهدنا الرئيس الأمريكى ترامب الذى يعتبر من دهاقنة الرأسمالية الغربية، يتوعد اثنتين من كبريات الشركات الأمريكية بالتأميم ما لم ترضخ لقرارات السلطة الفيدرالية وتنتج أقنعة الوجه والأردية الوقائية بكميات ضخمة تلبى الاحتياجات المطلوبة فى البلاد.
< < <
وأعتقد أن الدروس المستفادة من أزمة «كورونا» تفرض على الدولة المصرية التعمق أكثر فى إدارة الاقتصاد والتخطيط المركزى للمجالات التى يتطلبها الواقع الجديد بعد الأزمة، والتوسع فى إنشاء مشروعات زراعية صناعية لإنتاج سلع استراتيجية لا غنى عن توافرها فى أوقات الأزمة.
ولابد من وجود قطاع عام مشترك جديد تمتلك فيه الدولة حصة حاكمة وتطرح اسهمه للمواطنين وللشركات الخاصة ورجال الأعمال لتملكه، مع اختيار عناصر كفؤة لحسن إدارته وفقا للاستراتيجية التى تضعها الدولة.
أظن الدولة سوف تزيد من سرعة إنجاز مشروعات الاستصلاح التى تستهدف زراعة مليون ونصف المليون فدان، بجانب مزارع الصوب التى ينتظر أن تنتج وفقا لما هو مستهدف ما يعادل حصاد مليون فدان فى المحاصيل والخضراوات والفواكه.
وسوف تزيد أيضاً من إيقاع مشروعات تحويل مصر إلى قوة صناعية، من خلال تقديم التسهيلات اللازمة لاجتذاب رءوس الأموال التى ستغادر الصين فى أعقاب الجائحة، من أجل إنشاء مشروعات تلبى متطلبات السوق الأوروبية القريبة، لاسيما أن إعادة تحريك الاقتصادات فى بعض الدول الأوروبية الكبرى يحتاج إلى جهد كبير ويتطلب وقتا غير قصير.
< < <
ولعل الدولة ستعطى الأولوية فى خططها القادمة للتوسع فى مشروعات الصناعات الغذائية القائمة على مزارع الاستصلاح الجديدة، والصناعات الصغيرة والمتوسطة التى تلبى احتياجات المواطنين فى الحالات الطارئة كالأوبئة والزلازل -لا قدر الله- وغيرها، كأقنعة الوجه والأردية وكواشف الحرارة والمطهرات، فى مثل حالة وباء كورونا، وكذلك السلع الخفيفة التى نعتمد على الاستيراد فى توفيرها، وربما نجد فى أوقات ما أن الاستيراد لم يعد ممكنا وأن الأسواق خلت من تلك السلع وبعضها ضرورى للاستهلاك أو لإدخال قيمة مضافة إليها فى عملية انتاج جديدة.
ثمة أولوية متوقعة أيضاً للتوسع فى إنشاء المستشفيات ومراكز البحث العلمى بالجامعات خاصة فى المجالات الطبية، وكذلك فى شركات السلاسل الغذائية وشركات نقل البضائع والتسليم المنزلى والدفع الإلكترونى ومنتجات الترفيه.
هذا بجانب مشروعات البناء والتشييد والعمران فى كل أرجاء مصر، التى تستهدف بجانب تطوير شبكة الطرق وإنشاء المدن الجديدة والإسكان الاجتماعى، ايجاد فرص عمل متجددة توفر مصادر الرزق لملايين من العمالة العادية فى مجالات عدة، ومن ثم فإن هذه المشروعات لها أدوار اقتصادية واجتماعية وأمنية متضافرة.
وفى تقديرى، فإن البنوك لابد أن تعد من الآن حزما من التسهيلات الائتمانية للقطاع الخاص الراغب فى إنشاء مشروعات كثيفة العمالة أو المشروعات التى تستهدف زراعة محاصيل أو تصنيع سلع وبضائع أو توفير خدمات، من تلك التى تعتبرها الدولة ذات أولوية فى الوقت الراهن، وتضع لها قوائم واضحة. ويجب أن نضع فى الحسبان، تحديث خطط وبرامج التعليم خاصة التعليم الفنى، لتوفير عمالة يحتاجها سوق العمل الجديد.
ولابد أيضا من وضع ضوابط تلزم القطاع الخاص بالتأمين على العمالة لديه، حتى لا نفاجأ بالاستغناء عن أعداد منهم دون توفر تعويضات أو إعانات مؤقتة، فى أوقات أزمات مشابهة، لا سيما أن هناك أصواتاً من رموز تنتمى للرأسمالية المتوحشة سمعناها تدعو إما للاستغناء عن العمالة، أو عدم الاكتراث بصحة العمال وحياتهم فى سبيل استمرار مشروعاتهم فى الدوران ومراكمة ثرواتهم أكواما فوق أكوام..!
< < <
وفى قلب معمعة الخيارات الجديدة والأولويات المستحدثة.. لابد أن ترتفع وتيرة محاربة جماعة الإخوان الإرهابية، وملاحقة عناصرهم المعادية للوطن سواء الموجودة على الأرض، أو التى تمارس أعمالها التخريبية على الفضاء الإلكترونى باختلاق الأكاذيب وترويج الشائعات. ولعل القضاء المصرى الشامخ يسارع فى إصدار أحكامه العادلة الباتة ضد قيادات الإخوان، إغلاقا لأى أبواب يتوهم أعضاء الجماعة أنها متروكة مواربة للعودة إلى الحياة العامة..!
< < <
ويجب ألا نغفل درسا مستفادا بالغ الأهمية من هذه الأزمة، للاستنارة به فى رسم سياسات المستقبل، وهو الدور الذى لا غنى عنه للإعلام الوطنى من صحف ومحطات تليفزيون وشبكات إذاعية فى الحشد والتأثير وضبط السلوك العام وإحكام سيطرة الدولة فى أوقات الأزمات على شئون الإدارة ومصالح المواطنين، فضلا عن نقل قرارات الدولة إلى الناس وهموم المواطنين إلى الحكومة، فى جسر من اتجاهين.
ليس خافيا على أحد، التقدير الذى يكنه الرئيس عبدالفتاح السيسى لدور الإعلام المصرى بالذات فى التعامل مع الأزمة، وهو ما كان محل ثناء علنى من جانب الرئيس أمام المشاهدين من جموع الشعب المصرى.
فالرئيس يعلم أن رجال الصحافة والإعلام فى الشارع جنبا إلى جنب مع رجال الجيش والشرطة وأطقم الرعاية الصحية فى أوقات العمل وساعات حظر التجوال ليل نهار، يؤدون رسالتهم فى الإعلام والتوعية والتنوير، مؤمنين بدورهم الوطنى كمقاتلين بالقلم والميكروفون والكاميرا فى سبيل خدمة مصر الغالية وأبنائها.
ولعل الأزمة الراهنة تدفع أيضا إلى العمل على تعزيز المؤسسات الصحفية والإعلامية الرسمية والعامة والخاصة أيضا ودعم دورها وتهيئة المناخ للقيام برسالتها، لاسيما أن الأزمة الحالية كانت رصاصة ثانية تلقتها اقتصادات هذه المؤسسات بعد الرصاصة الأولى التى تلقتها فى الصدر إثر قرار تحرير سعر صرف الجنيه، ولعل الرصاصة الأخيرة لا تصيب القلب..!
وعسى أن تبادر الحكومة وعلى رأسها المحترم الهمام الدكتور مصطفى مدبولى رئيس مجلس الوزراء بتوفير دعم مالى للمؤسسات الصحفية يمكنها من تخطى الأزمة الراهنة التى أدت إلى توقف معظم مصادر دخل هذه المؤسسات وعلى رأسها إعلانات الصحف والطرق.
وأدعو إلى وضع منتجات الترفيه والثقافة والإعلام ضمن قائمة الصناعات التى تضعها الدولة فى صدارة أولوياتها خلال الفترة المقبلة، وتقدم لها التسهيلات المتاحة وشروط التمويل الميسرة.
< < <
فى كل الأحوال.. علينا أن نعد حتى «رقم عشرة» قبل أن نتخذ قراراً فى لحظة ما، لا نعرف متى ستأتى، برفع أو تخفيف الإجراءات الاحترازية، وعودة الأمور إلى طبيعتها، عند انحسار حدة الإصابات أو عدم تسجيل حالات وفاة جديدة بالفيروس.
فقد يكمن الفيروس، ليعود - لا سمح الله - ملتفاً ومباغتاً على نحو أشد شراسة.
الحديث متصل.
.. وحفظ الله الجميع.
نقلا عن اخبار اليوم