أحـمـد الـخـمـيـسـي يكتب : حــــتــــى تــــراب الــــوطـــن .. بـــــطــــولـــة
حتى تراب الوطن يصبح قوة تنضح بقصص الشجاعة، لهذا تحكي أسطورة قديمة أن أميرا دعا أميرا آخر للمصارعة حسما لنزاع بينهما، فوافق الثاني شرط أن تفرش دائرة القتال بتراب من وطنه، وكان الثاني يوجه ضرباته منتصرا طالما قدماه على تراب وطنه، لكنه يهزم إن زلت قدمه خارج تراب بلده. مع ثورة 19 في مصر، عمت موجة اغتيالات بلغت ذروتها بمصرع " السير لي ستاك" قائد الجيش المصري وهو في طريقه إلى منزله في الزمالك. فقد هاجم موكبه في 19 نوفمبر 1924 مجموعة من الشباب فتحت الرصاص عليه وألقت على سيارته قنبلة تبين للانجليز أنها يدوية الصنع. توفي " سير لي ستاك" متأثرا بجراحه، وبقي السؤال الأهم : هل انتقل المصريون إلى صنع القنابل؟ وأين؟ ومن الذي يقوم بذلك؟. المصريون قبل هذه الحادثة كانوا يلقون بأنفسهم وهم عزل من السلاح أمام نيران قوات الاحتلال، وكان الشباب حسب وصف عباس العقاد في كتابه " سعد زغلول" يتقدم صفا بعد الآخر فاتحا صدره للبنادق فقط لكي يرفع العلم المصري عاليا، يتساقطون في دمائهم ، صفا بعد صف، لأنهم : " يطيقون رؤية الجثث المطروحة ولا يطيقون رؤية علم مصر ملقى على التراب". لكنهم الآن يصنعون القنابل؟! وهو تطور جديد في مقاومة الاحتلال بعد أن بلغت محاولات اغتيال مسئولين بريطانيين إحدى وعشرين محاولة حتى عام 1924! أين تصنع القنابل؟ من ماذا؟ من الذي يقوم بتصنيعها؟ حاولت الشرطة بقيادة الانجليز الوصول إلى شيء، أي شيء، دون جدوى. وفجأة استيقظت في ذاكرة أحد الضباط قضية قديمة كان قد انقضى عليها ستة أعوام، حين بلغ الشرطة أن شابا مجهولا كان يختبر قنبلة في الصحراء الشرقية بجوار حلوان وانفجرت فيه ودفن في مكان الحادث. لابد أن لذلك الشاب الذي كان يختبر القنبلة علاقة بآخرين، بأولئك الذين يصنعون القنابل الآن. من هم؟ أين هم؟ وهل يمكن لقبره أن يكون خيطا يقود إلى معلومات محددة؟. راحت الشرطة لنحو نصف عام كامل تبحث في الصحراء الشرقية عن قبر مجهول، قسمت الأرض إلى عدة أقسام، ونبشت كل قسم، وحفرت، من دون أن تصل إلى شيء. وعندما أصاب اليأس الضباط وتقرر التوقف عن البحث، فوجئوا بصبي بدوي كان عائدا على جمله من الصحراء وقد وجد عظاما بيضاء صغيرة في مكان جاف. وهرولت الشرطة إلي هناك وحفرت واكتشفت بعض الملابس المخبأة بين الصخور، وعثرت على بقايا القنبلة، وعددا آخر من زجاجات القنابل الصغيرة موزعة في الأرض. لكن من هو الذي ضحى بحياته لكي يجرب القنابل؟ لم تجد الشرطة سوى بقايا ملابس بها بعض الأزرار، وبجمع البقايا وبالتحري أمكن الوصول إلى الخياط الذي حاكها في القاهرة، ثم معرفة اسم مالكها. من هو؟ نحن لا نعرف، ولا يذكر " توماس راسل" قائد عام الشرطة في مصر الاسم، لهذا يبقى لنا اسمه في تراب مصر، ويصون التراب تلك البطولات، ويمسى حتى تراب الوطن قوة، تنضح بقصص الشجاعة والكفاح، وبوجوه لا نعرفها، يمكننا فقط أن نتخيلها، كما يمكننا أن نتخيل كل البسالة والتضحيات التي ينطوي عليها ترابك يامصر، ومنه تنبت كل يوم قصص جديدة، مثل قصة طلعت سالم السائق الذي تجاوز الخمسين، وكان يقف داخل محطة وقود فجر يوم الأحد 10 مايو قرب شاحنة وقود تحمل خمسة وأربعين طن بنزين، وفجأة اشتعلت الشاحنة على مرأى من الجميع موشكة على تفجير المحطة والبيوت المجاورة. ارتفعت ألسنة اللهب وتجمد الجميع أمامها بذهول، أما طلعت سالم فلم يفكر طويلا، لا في ابنه محمد ولا ابنتيه ولا بيته، اندفع نحو الشاحنة وقفز إليها وقادها في اللهب إلى منطقة جبلية بعيدة ثم وثب منها، فأنقذ حياة المئات من الموت في مدينة العاشر من رمضان. قال طلعت سالم بعد ذلك: "هناك بيوت قرب محطة الوقود، وكان كل همي أن أخرج بالشاحنة من المحطة، لأنها لو بقيت ثلاث دقائق أخرى لانفجرت ودمرت المحطة والمساكن المحيطة بها. ما قمت به لم يكن إلا الواجب حفاظا على أرواح الناس". هناك من لا يطيقون رؤية العلم ملقى على التراب، ومن يخترعون السلاح لمقاومة الاحتلال، ومن ينقذون الحياة بأرواحهم، وجميعهم من تراب مصر، التراب الذي لم يكن له اسم أو صورة أوهيئة في الصحراء، ومع ذلك فقد منح قوة الانتصار لكل من قاتل من فوقه. حتى التراب عندنا ينضح بطولة وشجاعة.