الصباح العربي
السبت، 23 نوفمبر 2024 11:30 صـ
الصباح العربي

بأقلام القراء

محمد فؤاد البري يكتب: عندما تسلب الحياة لا مجال للمفاوضات

الصباح العربي

مصر تستمد أساس حياتها من خارج حدودها السياسية، هذه نقطة حرجة في الأساس الطبيعي لاقتصاد الدولة، النيل الذي خلق مصر يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة في سهول السودان، وكان يمكن أن تنتهي حياته عند هذا الحد لولا عون يأتيه من أخيه الحبشي (النيل الأزرق) فإذا ساعده يشتد، وإذا به يواصل رحلته نحو الشمال في أشد مناطق العالم جفافا حتى يدخل مصر محملاً بالغرين والطمي الذي ردم خليجًا منبسطًا موفور الخصب، يتيح للحضارة المصرية – أعظم ما عرف التاريخ القديم من حضارة – أن تنمو وتزدهر.

فإذا كانت مصر هي هبة النيل، فهي هبة النيل الأزرق إنها تدين له بالكثير، وفي حاضرنا هذا علي نفس النهر تريد إثيوبيا أن تتحدى الطبيعة وتحتجز المياه الذي تتدفق منذ آلاف السنيين بحجة توليد الطاقة الكهرومائية، ولكن الحقيقة عكس ذلك تماما إذا كان الهدف توليد الطاقة فقط فهناك العديد من المساقط المائية والمجاري النهرية الأخرى التي من خلالها تستطيع إنتاج الكهرباء. هناك دوافع سياسية واقتصادية أخرى وراء هذا السد، إثيوبيا التي تفتقد للموقع الجيد ليس لها ساحل ولا رصيف قاري تبحث أمامه عن مصادر طاقة كالغاز الطبيعي أو البترول لن تجد سوى الماء هي لا تمتلك سواها ومن المعلوم أن دول الخليج العربي لها استثمارات علي نطاق واسع من أراضي إثيوبيا.. من الممكن أن تفكر إثيوبيا في معادلة المال أو البترول الخليجي مقابل المياه!

من حق إثيوبيا وأي دولة من دول حوض النيل التنمية، ولكن التنمية لها أصولها التي خرجت عنها الحكومة الأثيوبية، حيث استغلت محنة مصر التي مرت بها عقب ثورة 25 يناير وبدأت في تنفيذ السد دون تشاور مسبق بين دول الحوض، وهذا يخالف القانون الدولي، كما أن موقع السد وطريقة تصميمه لم يراعي الاستخدام العادل والمنصف للمصادر المائية حيث يقع السد علي بعد 20 كم من السودان، في ولاية بني شنقول آخر حدود إثيوبيا المائية علي النيل الأزرق هذا الموقع يعني حجز إيرادات تصريف النيل الأزرق كاملة، حيث يسير النيل الأزرق في مجري ضيق عميق وسط مرتفعات جبلية ومعظم الأمطار الساقطة على هضبة الحبشة في فصل الصيف تتجه عن طريق مئات الروافد والنهيرات الصغيرة التي تنحدر لتصب في النيل الأزرق من جميع الجهات وبالتالي اختيار هذا الموقع تحديدًا يعني احتكار للمياه وليس تنمية، والواقع أن هذه المنطقة جيولوجيًّا منطقة انكسارية وضعيفة البنية الجيولوجية لا تستوعب هذا الحجم الهائل والثقل المائي المفترض تخزينه في بحيرة السد الصناعية التي يتسع خزانها إلى 74 مليارم3.

تصميم السد لم يراعي أن خلف هذا السد 140 مليون مواطن في مصر والسودان تتوقف حياتهم على مياهه، وبالتالي إثيوبيا صممت السد وكأنها دولة مصب وليست دولة منبع أساسية.

الحقيقة أن مصر من قبل بناء السد تعاني من عجز مائي وستدخل مرحلة الندرة المائية نظرًا للتغير المناخي وتذبذب سقوط الأمطار هذا مع ثبات حصة مصر المائية وتزايد حجم السكان مع التوسع في المشاريع الزراعية كل هذا يمثل ضغط كبير في حاجة مصر إلى المياه.

وعند حصر النتائج المباشرة على مصر المتوقع أن يسببها السد، نعددها كالتالي:

1- هناك علاقة عكسية بين حجم المياه داخل المجري ونسبة التلوث والتبخر معا، فكلما قلت غزارة المياه داخل المجرى كلما ارتفعت نسبة التلوث، كما ترتفع نسبة التبخر لقلة غزارة المياه.

2- خروج السد العالي عن الخدمة نظرًا لانخفاض منسوب المياه المتوقع في بحيرة ناصر مما يتناقص بدوره في إنتاج الطاقة الكهربائية.

3-التأثير المباشر علي مشاريع التوسع الأفقي للأراضي الزراعية في الصحاري المصرية علي غرار مشروع الدلتا الجديدة الذي يستهدف زراعة 2.5 مليون فدان، ومشروع توشكي مما يؤدي إلى الاعتماد على مصادر أخرى في الري مكلفة نسبيًّا كتحلية مياه البحر أو السحب الجائر للمياه الجوفية مما يسبب ملوحة تلك المياه وتلوثها أو يزيد الاعتماد على مياه الصرف الصحي المعالج وهذا الأخير له عواقبه الخطيرة على صحة المواطن.

4- تقليل التوسع في زراعة المحاصيل المستهلكة للمياه كالأرز الذي يعد محصول غذائي هام للشعب المصري كما يساهم في المنتجات الهامة التي يتم تصديرها للخارج.

هذه هي أبرز المخاطر المتوقعة وفي الحقيقة لن نموت من العطش ولكن سنموت من التلوث هي مخاطر بيئية واقتصادية في مجملها لكن نهر النيل لن يجف حتى قيام الساعة.

في الحقيقة فكرة السد قديمة ولكن الرد الصارم لمصر كان واضح بالرفض التام وجاءت الفرصة لإثيوبيا علي طبق من ذهب عندما استغلت حالة الفراغ السياسي التي حدثت بعد ثورة 25 يناير لتبدأ في تشييد أكبر سدود أفريقيا وحينها وضعت مصر أمام أمر واقع، الحقيقة لن نلوم الحكومة الحالية فحرب المياه مع إثيوبيا أصعب من حرب سيناء مع إسرائيل.
أخيرا لا نبكي على اللبن المسكوب لكن يجب مواجهة الواقع دون تخاذل وأتمنى من القيادة السياسية عدم الاعتماد الكامل على مجلس الأمن والقانون الدولي، فقضايا الأمن الوطني لا يمكن أن تشترى إلا بثمن من التضحية الشخصية، القوة العسكرية مطلوبة لاسترداد حقوقنا وحماية أمننا المائي، الوجود العسكري المصري في منطقة السد قد يعطل أثيوبيا عن التخزين وكذلك يضغط علي مجلس الأمن لإصدار حكم حاسم، أما إتباع الدبلوماسية الهادئة في مثل هذه القضايا لن يجدي. نحن استرددنا سيناء بالحرب أولا ثم بالمفاوضات والمباحثات ثانيا، العراق جفت أراضيها في مناطق عديدة في نهري دجلة والفرات بسبب السدود التركية بعدما كانت بلاد الرافدين ماذا فعل لها مجلس الأمن ؟ كذلك أين كان دور مجلس الأمن في قضية فلسطين؟! نهاية الأمر أقر بأن القدس عاصمة إسرائيلية، وأين دور مجلس الأمن من مشكلات عالمية عديدة كمشكلة كشمير والصحراء المغربية ومشكلات القرن الأفريقي والحرب في سوريا وغيرها؟! وماذا فعلت الأمم المتحدة لآبي أحمد أعطته جائزة نوبل للسلام والآن تصفه بأنه مجرم حرب! نهاية القول أن القانون الدولي ليس دائمًا عادلاً، ومجلس الأمن يقف عاجزًا أمام الكثير من القضايا خاصة المتعلقة بأمن الشعوب واستقرارها.

الكاتب باحث في كلية الدراسات الأفريقية العليا جامعة القاهرة
المقال يعبر عن رؤية الكاتب

محمد فؤاد البري يكتب عندما تسلب الحياة لا مجال للمفاوضات

بأقلام القراء

آخر الأخبار

click here click here click here altreeq altreeq