سراقة بن مالك والآية الكبرى
بقلم- محمد مصطفىالكل يبحث الآن فى منافذ مكة الخارجية ، طمعاً فى نيل المكافأة الكبيرة، والرسول صلوات ربى وسلامه عليه وصحبه داخل الغار منذ ليلة أمس، وعبد الله بن أبى بكر يتجول فى طرقات مكة نهاراً، يسمع ويرى ما يدور فيها ، وما يدبر للنبى وأبيه، فهو عينهما فى مكة . وعامر بن فهيرة يذهب بالغنم ومعه ما احتاجه النبى وسيده، ويغطى آثار الأقدام حول الغار بالغنم، وأسماء بنت أبى بكر توافيهم ليلاً بالطعام الذى يكفيهم حتى اليوم الثانى، وتشق نطاقها نصفين، فتضع الطعام فى نصف، وتربط الثانى على بطنها .. وعُرفت من يومها - بذات النطاقين-
ثلاثة أيام يستمر فيها الطلب، والرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه يمكثان فى – غار ثور- حتى إذا هدأ الطلب فى اليوم الثالث، تهيأ الرسول وأبو بكر للخروج من الغار، ويبدأ التخطيط للرحلة الكبرى إلى المدينة .
ينطلق عامر بن فهيرة ليأتى – بعبد الله بن أريقط – دليل الطريق، ويتم اللقاء عند سفح جبل الغار، ويأخذ الركب الميمون مسيره نحو الشمال، ليمر بمكة من بعيد، ثم ليجاوزها الى ناحية طريق الساحل، المتجه شمالاً إلى المدينة . ويسير الأربعة نحو غابتهم، فى الأمام – عبد الله بن أريقط – ومعه – عامر بن فهيرة– وخلفهما النبى والصديق، وأبو بكر لا يفتأ يتلفت يميناً و يساراً، يسير مرة أمام النبى ومرة خلفه، ويسأله الرسول عن ذلك فيقول أبو بكر: يا رسول الله أذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون خلفك، ومرة عن يمينك ومرة عن يسارك، حتى آمن عليك، ويسأل أبو بكر الدليل – عبد الله بن أريقط – عن خط سير الرحلة، ليراجعه أبو بكر فى الأماكن التى يرى فيها خطراً عليهم إذا سلكوها، ويجيب عبد الله بن أريقط وكأنما رسم بإحكام طريقه للسير، لا تسلكه القبائل فى مسيرها نحو الشمال، قال: سأمضى إلى طريق الساحل وأعرج أسفل عسفان، ثم أستمر حتى – أمج – ومنها أنطلق إلى – قديد- ومن قديد أسلك الطريق المؤدى إلى – الخرار – ومنها إلى – ثنية المُرة – فإذا وصلت – مدلجة لقف – أستبطن بها حتى أصل – مدلجة محاج – ثم أستمر حتى – الجداجد – ثم – الأجرد – فإذا وصلت – العبابيد – أبطأت ولا أحيد يميناً ولا يساراً حتى أدرك يثرب .
اطمأن أبو بكر بدروب السير الوعرة، واختياره للطرق المجهولة، التى يتعذر الولوج فيها، وانطلق الرهط إلى مهجره .
وبعد مرور الأيام الثلاثة هدأ الطلب، ولكن لم يهدأ في نفوس الطامعين في المكافأة، فمائة بعير ليست هينة، جعلت فرسان قريش تحوم حول الطرق المؤدية إلى المدينة حوم المتلهف على الفريسة وكان – سراقة بن مالك بن جُشم – أكثرهم تلهفا، وكيف لا وهو فارس فرسان - بنى مُدلج- وسيد من ساداتهم، يجلس فى أحد أندية قريش، ويسمع ما يدور بين الناس ، محاولات تخرج للبحث عن محمد ولا يعود الرجال، ويخامره الشوق في الخروج للبحث عنه، وبحنكة الفارس المخضرم ينتظر حتى يُحار أهل مكة، ويُغالبهم اليأس في العثور عليه، ويقرر فى نفسه شيئاً ؟ عدم تفويت الفرصة والخروج إلى الطلب ، لكن مع هذا تثاوره المخاوف من أن يعثر أحدهم عليه لو تأخر أكثر من هذا، فبينما هو جالس يحدّث نفسه هكذا، جاء أحدهم وقال له : أراك يا سراقة صامتاً عما يدور حولك، هل تحدثك نفسك بالمائة ناقة، التى رصدتها قريش لمن يأتى بمحمد ؟
قال سراقة : عجبت والله لأمر قريش، تدفع مائة من الإبل لقتل ولد من أولادها ؟ قال الرجل : ولكنه عادى آلهتها وسفَّه أحلامها وفرَّق جمعها . قال سراقة : ولكنه خرج من بينهم فهل تركوه يذهب حيث شاء فتخلص لهم مكة، ويترك الرجل سراقة يتحدث وقد انهمك فى النظر بعيداً إلى قادم يأتى من أولئك النفر الذين خرجوا للبحث عن محمد ، فلما دنا منهم القادم سأله سراقة، ما بك يا رجل ؟ رأيتك تتهامس نحوه وأنت تعدو نحونا ؟ قال الرجل الذي كان يحادث سراقة : يقول لى ابن أخى إنه رأى لتوه أشخاصاً غرباء : وفي تلهف المترصد فرصة قال سراقة : ماذا تعنى وأين رآهم ؟ قال الفتى القادم لتوه : رأيتهم بالسواحل، وأغلب الظن أنهم محمد وأصحابه .
أحس سراقة أنهم عثروا عليه من بعيد وقال فى نفسه : والله إنه لمحمد، آه لو عثرت عليه، مائة ناقة تضاف إلى الإبل والشياه فأكون أغنى رجل فى - بنى كنانة - وعزم أمره، وموَّه على الرجل والفتى وصرف أنظارهما إلى ما هو بعيد عن الموضوع حتى يستأثر بالجائزة دونهما، فقال سراقة للفتى الذى رآى الغرباء : لا لا لقد أخطأت والله، إنهم جماعة من عبيدنا وصبياننا انطلقوا يبحثون عن ضالة لنا فاهدأ بالاً .
وصدَّقا ما قال سراقة، وكتم سراقة الأمر ، وصمم على الخروج خلف النبى وأصحابه وما إن عاود من فى المجلس حوله سمرهم ، وانشغلوا بحديثهم، حتى انسل ودون أن يلحظه أحد مبيتاً أمره . الخروج خلسة ونيل مكافأة قريش دون شريك، ويذهب إلى بيته ، ويأمر جاريته بأن تأخذ فرسه وسلاحه وتنتظره فى بطن الوادى دون أن يراها أحد ، ويتلكأ سراقة صرفاً للأنظار، ثم يتسلل إلى بطن الوادى حيث تنتظره الجارية، فيركب جواده وينطلق على طريق الساحل، ولا يلبث أن يلحق بهم، ويلمح أبو بكر الراكب خلفه فيقول : يا رسول الله لقد أدركنا الطلب، ويقترب فرس سراقة من خلف النبى صلوات ربى وسلامه عليه، وكان يقرأ القرآن فدعا النبى دون أن يلتفت إلى الخلف ، فيتعثر جواد سراقة، وترتطم بطنه بالأرض، ويقول سراقة لنفسه على الأرض وقد تمتلكه دهشة : ويحك سراقة ، يتعثر به جواده فوق أرض صلبة، لابد أن هذا الرجل كما يُقال عنه إنه ممنوع ؟ . ثم يعاود سراقة المحاولة بعد أن قام جواده وهو يحدث نفسه : ها قد قام الفرس لابد أنها كبوة من كبوات الجياد، لألحقن به .
ويندفع سراقة في المرة الثانية ، وما أن اقترب من خلف النبى ، إلا وساخت قوائم الجواد فى الأرض الصلبة ، ويتسمر مكانه وقد استوى بطن الجواد بالأرض . أيقن سراقة أن لا فائدة في هذا الطلب فقال فى نفسه : والله إن الرجل ممنوع ولن يخلص إليه، ثم صاح : يا محمد قد علمت أن هذا عملك فادع الله أن ينجينى مما أنا فيه ، ولك علي عهد الله من هذا الطريق، أن لا أدع أحداً يطاردك، وأن أرد عنك الطلب . ويُخلصه الرسول صلى الله عليه وسلم من غرسته بدعوة كما ثبته فى الأرض بدعوة، فينهض الجواد وكأن لم يمسه شيء، ويهمس سراقة فى نفسه همساً : لقد علمت والله إن الرجل ممنوع، وليس إليه سبيل، لأقتربن منهم فى هدوء .
ويقترب سراقة فى هيئة أمان من الرسول ، ويدفع الرسول بأبى بكر ناحيته، ويقول الرسول له : ماذا تبغى يا سراقة ؟ قال سراقة فى وداعة ولين : أنا سراقة بن مالك ابن جُشم المُدلجى ، لا يصلك منى ما تكره، وهذا سهم من كنانتى ، وإنك لواجد إبلى فى طريقك فاعطِ للرعاة هذا السهم، يعطونك من إبلى ما شئت .
قال الرسول : لا حاجة لى فى إبلك، قال سراقة : يا محمد إنى أعلم أن أمرك سيظهر، فاكتب لى أمانا إن أتيتك به أكرمتنى . فأمر الرسول أبا بكر أن يكتب ما أراد، فكتب أبو بكر فى رقعة الأمان الذي طلبه وأعطاه له . واستدار سراقة بفرسه موجهاً عنانه ناحية مكة وهو يقول : والله لأردّن عنكم الطلب، فلا يصلكم أحد من قبلى أبداً، فلما هم بالانطلاق، سمع صوت الرسول صلى الله عليه وسلم خلفه فتوقف : ياسراقة كيف بك وقد تسورت بسواري كسرى ؟ واندهش سراقة وقال : كسرى بن هرمز ؟ قال الرسول : نعم (كسرى بن هرمز )
وانطلق سراقة يكلم نفسه بهذا الوعد : يا للعجب يعدنى بسواري كسرى والناس تلاحقه، يعدنى بها ولا يجد شربة ماء ؟ أحقا يكون لى فى يوم ما سواري كسرى ؟
وكيف لا والرجل ممنوع ، وإنى على يقين بأنه سيظهر على العرب والعجم .
وقطع سراقة طريق العودة حتى دنا من مكة، فقابله فى الطريق بعض الفرسان وقد اهتدوا إلى الطريق الذى سلكه محمد ، فأوقفهم سراقة وقال : إلى أين يا إخوة العرب ؟
قالوا : بلغنا أن محمدا قد سلك هذا الطريق . قال سراقة : قد كفيتكم هذا الطريق فابحثوا فى طريق غيره . ويأخذ الرجال طريقاً آخر، وكلما مرت مجموعة بحث تبتغى هذا الطريق منعهم سراقة، وعاد إلى داره وحفظ عهد النبى، وأدى ما قطعه على نفسه فى رد الطلب ، وبدأت تتواتر الأخبار إلى أبى جهل، أن سراقة اعاق سير الفرسان المتجهة إلى طريق الساحل ، وحال بينهم وبين محمد، فمشى اليه أبو جهل والتقاه وقال له : أتراك صبأت ياسراقة ؟ قال سراقة : لا والله يا أبا الحكم ما صبأت ولا تابعت محمداً على دينه . قال أبو جهل : فلِمَ إذن رددت الناس عن الطريق الذي جئت منه ، وقد أصبت محمداً فيه ؟
قال سراقة : إنى يا أبا الحكم .. لقد رأيت رجلاً لأمره فى الظهور، فأحببت أن تكون لى يد عنده .. ويتغير لون أبى جهل، ويعجب لسماع هذا الذى يقوله سراقة، فيقول فى سخرية : أو سحرك محمد يا سيد بنى كنانة ؟ قال سراقة : لا يا أبا الحكم، لو أنك رأيت ما رأيت ما لمتنى على ما فعلت . قال أبو جهل : وما رأيت بحق اللات ؟ فأنشد سراقة قائلاً :
أبا الحكم واللات لو كنت شاهداً ........... لأمر جوادى إذ تســوخ قوائمه
عجبت ولم تشكك بأن محــــمداً ......... رسول وبرهان فــمن ذا يقاومه
عليك فكف الــقوم عـــنه فإننى .......... أخال لنا يوما ســــتبدو معالمه
بأمر تود النصر فـــيه فإنــــهم ........ وإن جـميـع النـاس طــراً تســـالمه
ويتركه أبو جهل وهو يتمتم بكلمات ملؤها السخط والغضب : واللات ما انتهينا من سحر محمد بعد – يكر الفرسان خلفه - وبدل أن يأتونا به يردون الطلب عنه .. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين.