يوسف القعيد يكتب: يا رمضان أنت ابن القرى


رغم أنه شهر فى السنة كلها. إلا أن طبيعته الخاصة تجعل منه زمناً مختلفاً عن زمن السنة، إيقاع مغاير، نظام حياة لا يمت بصلة لنظام حياة الأيام الأخرى، يأتى فيغير كل ما كان موجوداً قبله، وما إن تحدث حالة من التعود عليه حتى يخذلنا ويرحل، لكى نعود لما كنا عليه قبله، ولأن إسم الإنسان من النسيان، ننسى كل ما مررنا به خلاله إلى أن يطرق أبوابنا بعد سنة من رحيله، إنه شهر رمضان.
من كانوا يولدون فى قريتى خلال رمضان كانوا يحملون اسم رمضان. تيمناً بالشهر الكريم. ومثلهم من يولدون فى رجب أو شعبان. ومن يولدون فى شهر محرم. إنها الأشهر الحرم الأربعة التى لا تزور قرية مصرية إلا وتجد أكثر من إنسان يحمل اسم أى شهر من هذه الشهور.
ولأحمد شوقى "أمير الشعراء" بيت من الشعر يناجى فيه القمر. يقول له فيه ما معناه. فأنا أروى البيت من ذاكرتى: يا بدر أنت ابن القرى، وأراك فى ليل المدائن إن بدوت غريباً. وباستعارة بيت شوقى الجميل يمكننى القول: يا رمضان أنت ابن القرى، وأراك فى ليل المدائن إن بدوت غريباً أو مخطوفاً. ما أن يهل رمضان على المسلمين فى قريتى. حتى يتحول إلى تحية بين المسلمين. يتقابل مسلمان يقول أحدهما للآخر: رمضان كريم. فيرد الثانى: الله أكرم.
هذا ما كنت أسمعه بأذنى فى قريتى. وما زال يرن فى خيالى حتى الآن. ومازلت أذكر حب الناس للناس فى رمضان. صاحب البيت الأول فى قريتى من النواحى الأربع: قبلى وبحرى وشرقى وغربى. إن وصل غريب للبلد لحظة الإفطار. بعد رفع أذان المغرب من فوق مئذنة سيدى عبد الله النشابى. "لم أعرف المدفع الذى يفطر عليه المسلمون إلا بعد الرحيل إلى إيتاى البارود، ثم دمنهور، ثم للإسكندرية، وأخيرا القاهرة". هذا الغريب يصبح ضيفاً على أول بيت يصل إليه. يشارك أهله طعامهم أياً كان. وطبلية رمضان أكرم طبلية على مدار أيام العام كله. لأن كرم رمضان فى أيام الطفولة الخضراء الجميلة لا حدود له.
كنت أتصور أن رمضان إنسان عملاق. قدماه فى الأرض وكتفاه تحملان سماء الله العالية. تبدأ عملقته الكبرى. مع يومه الأول. ثم يصغر كلما ذهب يوم منه. العشرة أيام الأولى يكون فى اكتماله. والعشرة الثانية يكون حائراً بين البقاء والتفكير فى احتمال الرحيل. ولكن فى الأيام العشرة الأخيرة تبدأ التواشيح ليلاً. تصل بين انتهاء صلاة التراويح والسحور. لأن رمضان يكون قد قرر "المرواح" أى المضى. ولكل أول آخر. ولكل بداية نهاية.
يتصور الطفل. وخيال الطفولة يصنع المعجزات التى تعلو فوق الواقع وتصبح أقوى من كل معطياته. إن رمضان ذلك الكائن الفريد الذى يحيل ملل الحياة فى القرية لحيوية وحبور وسعادة يمكن أن يرحل.
كنت أسمع أمى - يرحمها الله رحمة واسعة – عندما كنت أعيش معها فى قريتنا تقول: أن العشرة أيام الأولى من رمضان مرق. والعشرة الثانية خلق. والعشرة الثالثة حلق. وتفسير هذه الفزورة يعنى أن العشرة أيام الأولى تعنى العناية بالطعام. والعشرة أيام الثانية تكون ملابس العيد الجديدة. والعشرة أيام الأخيرة ينصرفون لصناعة كعك العيد. وهكذا تتوزع الاهتمامات وتتنوع بين أيام رمضان ولياليه.
من المفترض أن رمضان شهر الصيام. وبالتالى فإن ما يباع من المواد الغذائية. من المتوقع أن ينزل إلى النصف. ولذلك أتصور حالة من الركود فى الأسواق. أليس هو شهر التفرغ للعبادات؟. وليس شهر الإقبال الجنونى على الشراء. ولكن الواقع يقول قولاً آخر. زحام فى الأسواق. لا يوجد موضع لقدم. لا تعرف من أين أتت كل هذه الأموال من شعب يعانى من مشاكل اقتصادية لا أول لها ولا آخر.
من معه يشترى حتى لو كان الشراء تعبيراً عن حالة من الوجاهة الاجتماعية. ومن ليس معه يسلى صيامه بالفرجة والزحام فى الأسواق. فى كل مكان فيه بيع وشراء. أسواق الخضر. أسواق الفاكهة. أسواق الخبز. أسواق الدجاج. أسواق اللحوم. أسواق الأسماك. وهناك أسواق رمضانية مستحدثة. يباع فيها الطرشى والكنافة النية أو الجاهزة. والقطايف.
والكلام عن رمضان المصرى لا ينتهي.-2-
نقلا عن اخبار اليوم